جبريل في غار حراء في المرة الأولى في منام رسول الله:
من رواية ابن إسحاق يتضح لنا أن جبريل جاء للرسول صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى كرؤيا في حال النوم، فقد قال صلى الله عليه وسلم نصًّا: “فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطِ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ”. ثم في آخر الحديث قال: “فَانْصَرَفَ عَنِّي، وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي، فَكَأَنَّمَا كَتَبْتُ فِي قَلْبِي كِتَابًا”.
فهذان النصَّان في داخل الرواية يُشيران بشكل واضح أن القدوم الأول لجبريل عليه السلام في الغار كان في الرؤيا، وليس في الحقيقة، وهذا قد يستغربه كثير من الناس؛ لأننا نعرف أن جبريل تكلَّم مع رسولنا صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، ولكن واقع الأمر أن هذا سيحدث بعد ذلك.
إن هذه الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستتحقَّق بعد ذلك “كفلق الصبح”، وسيرى الموقف نفسه الذي رآه في هذه الرؤيا على وجه الحقيقة بعد ذلك بأيام، وهذا يُفسِّر لماذا جمعت عائشة رضي الله عنها في روايتها الرؤيا الصالحة مع موقف زيارة جبريل الأولى، فعائشة رضي الله عنها كانت تتكلم في روايتها عن رؤية جبريل على وجه الحقيقة؛ ولكنها ذكرت موضوع الرؤيا الصالحة في بداية الرواية للدلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى هذا الموقف الذي تتحدَّث عنه عائشة رضي الله عنها في منامه قبل أن يراه على الحقيقة؛ بل إن هناك روايةً في البخاري تُصَرِّح فيها عائشة رضي الله عنها بذلك، فتقول: “أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جَاءَهُ المَلَكُ، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 1-4]”[1].
وكما نرى في هذه الرواية أن عائشة رضي الله عنها لم تفصل بين كلمة: “الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ”. وبين كلمة: “جَاءَهُ المَلَكُ” بأي فاصل من فواصل العطف، وهذا يعني أن الرؤيا الصادقة كانت عبارة عن مجيء الملك، فهي في هذه الرواية تتحدَّث عن موقف يسبق الموقف الذي تتحدَّث عنه في الرواية الأصْليَّة؛ وهي رواية رؤية الملك على الحقيقة، وواضح أن عائشة رضي الله عنها كانت تروي أحيانًا القصة مختصرة، وفي أحيان أخرى ترويها مفصَّلة، وهذا الذي جعل الالتباس يدخل عند البعض عند قراءة الروايات مجتمعة.
هذه الرؤيا شرحت صورة معينة للوحي، وهي صورة القراءة من كتاب؛ إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ فَقَالَ: اقْرَأْ”. فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا يُوَضِّح لنا أن جبريل عليه السلام أخرج كتابًا من النمط الذي يحمله، والنمط هو ثوب له خمل رقيق يُطرَح على هودج الجمل، والديباج هو الحرير، فهذا الثوب الحريري أخرج منه جبريل عليه السلام كتابًا، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ من هذا الكتاب، وقال عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا أَقْرَأُ”. فضمَّه الملك ضمَّة شديدة حتى قال صلى الله عليه وسلم: “حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي”. في الواقع إن هذا يفتح بابًا مهمًّا من أبواب التفكير والدراسة؛ حيث يُوَضِّح هذا الموقف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى “رسمًا” معينًا لحروف القرآن.
رسم القرآن الكريم، هل هو توقيفي أم اجتهادي؟
والعلماء يختلفون حول رسم القرآن الكريم، هل هو توقيفي؟ بمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُتابِع هذا الرسم الذي يكتبه الصحابة رضي الله عنهم ويُقِرُّه، وهو بذلك -أي الرسم- من عند الله عز وجل؟ أم أن رسم القرآن الكريم كان اجتهادًا من الصحابة الذين يكتبون الوحي رضي الله عنهم؟ والحق أنني أميل إلى أن الرسم توقيفي بالدرجة الأولى، وهذه الرواية التي بين أيدينا دليل واضح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد رسمًا معينًا؛ نعم هو في ذلك الوقت لا يستطيع القراءة؛ لأنه لم يكن يقرأ، ولا يكتب، ولكنه يستطيع -ولا شك- أن يحفظ هذه الصورة، وعندما يكتبها الصحابة بعد ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُؤَكِّد لهم الصورة التي رآها في يد جبريل عليه السلام عندما طلب منه القراءة، أو أوحى إليه القرآن بعد ذلك.
ويدعم أن رسم القرآن توقيفي أن الكتابة في القرآن الكريم كانت مختلفة عن الكتابة المتداولة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتَّضح هذا الفارق عندما تُقارن بين كتابة القرآن الكريم وكتابة الرسائل التي أرسلها رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى قيصر أو كسرى أو المقوقس أو النجاشي، وكثير منها محفوظ، فتجد أن الكتابة التي كُتِبَ بها القرآن الكريم كانت خاصة، ومتميِّزة، ومختلفة عن غيرها من الكتابات، بالإضافة إلى أن الكتابة التي كُتِبَ بها القرآن الكريم تشمل إعجازًا واضحًا، وفيها فروقات كبيرة عن بعضها البعض، وتُكْتَب فيها الكلمات أحيانًا بطريقة، وفي آيات أخرى بطريقة مختلفة، وهذه الطريقة المختلفة تحمل معاني جديدة، وأعتقد أنه من المحال أن يكون هذا اجتهادًا من الصحابة؛ حيث إن الإعجاز واضح فيه وبارز، وكما قرأ جبريل عليه السلام القرآن بطريقة معينة، وهي طريقة الترتيل التي نقرأ بها القرآن حتى يومنا هذا، وهي طريقة فريدة لا يتكلَّم بها العرب في كلامهم المعتاد، ولا يقولون بها الشعر، وإنما هي خاصة بالقرآن الكريم؛ وذلك من حيث قواعد الترتيل المختلفة التي نعلمها من غُنَّة ومدٍّ وإدغام وإشمام .. وغير ذلك من قواعد التلاوة، فهذا أمر فريد بالقرآن.
فإذا كان هذا من قبيل السماع، فكذلك -والله أعلم- من قبيل الرؤية، أو من قبيل الرسم، فهو -أيضًا- أمر خاص بالقرآن الكريم، ومحفوظ بحفظ الله عز وجل له، ويُؤَكِّد هذا المعنى -أيضًا- ما قاله صلى الله عليه وسلم في رواية عبيد بن عمير في ابن إسحاق حين قال:” فَكَأَنَّمَا كَتَبْتُ فِي قَلْبِي كِتَابًا”. فلم يُعلِّق صلى الله عليه وسلم بقوله مثلاً: فوعيت ما يقول، أو فحفظت ما قال. إنما حدَّد أن هناك كتابًا معيَّنًا حُفِظَ في قلبه، وهذا يُعطي الانطباع أن هذه الطريقة -أعني طريقة السماع مع وجود رسم يُشَاهد- هي الطريقة التي ستستمر بعد ذلك في أغلب الوحي، أو على الأقل فيما يختص بالقرآن الكريم؛ لأن الوحي كان منه ما ينقل آيات من القرآن، ومنه ما كان أوامر وتعليقات في السُّنَّة المطهرة وليس من آيات القرآن، فهذا النوع الأخير من الوحي لا يحتاج بالطبع إلى مشاهدة رسم معين لأن الصحابة لا يكتبونه، بعكس القرآن الكريم الذي كان يُسَجَّل أولاً بأول.
وكأن هذه المرة الأولى التي التقى فيها جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم هي محاكاة أو تدريب على ما سيكون بعد ذلك من أمر الوحي، ولا مجال هنا للاعتراض على هذا الرأي بقول: إن هذا الموقف ورد مرة واحدة في السيرة، ولم يتكرَّر ذكر رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لكتاب في يد جبريل عليه السلام؛ لأن الواقع في معظم تفاصيل السيرة، أو جزئيات الدين والشريعة، أنها كانت تنقل مرة أو مرتين فقط، وتكون هذه المرة كافية لأخذ الحكم منها، والموضوع كبير، والعلماء يختلفون في هذه القضية اختلافات ضخمة، ولكنني -كما ذكرتُ- أميل إلى رأي أن الكتابة كتابة توقيفية، وأنها من حفظ الله عز وجل.
ولعلَّ مراجعة الحوار اللطيف الذي دار بين عبد الله بن المبارك العلامة الكبير وشيخه عبد العزيز الدباغ، الذي كان من علماء القرآن الكريم المعدودين، يُوَضِّح لنا ما أُريد أن أنقله، أو ما أريد أن أقوله، وسأنقل هذا الحوار في الحاشية؛ لأنه خارج سياق القصة، ولكني وجدت أنه من اللطف بحيث ينبغي للقارئ أن يُتابعه، وفيه من أدب التحاور بين العلماء، وأدب طلب العلم، وفيه من العلم الواسع، وفيه من الحُجَّة البيِّنة ما يُمَتِّع القارئ إن شاء الله تعالى[2].
رؤية جبريل على الحقيقة بعد المنام خارج الغار!
إذن كانت المرة الأولى لجبريل عليه السلام في زيارته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئة رجل جاء إليه في المنام، ودار بينهما الحوار المشهور؛ الذي قال فيه الملك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرأ. فقال: ما أقرأ”. إلى آخر الحوار المشهور.
هبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه كما يقول: “وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي”. وفي الغالب كان يُخالطه شعور كبير من الرهبة، وقد يكون من الخوف؛ لأن الملك كان يضمُّه ضمَّة شديدة، لعلَّها أرهقته حتى عندما استيقظ في الحقيقة، وتَذَكَّر الرؤيا التي رآها، خاصة وأنه يعرف أن رؤاه كانت تتحقَّق كفلق الصبح، فهو يتوقَّع أن يرى مثل هذا الحدث على وجه الحقيقة، بالإضافة إلى أنه سمع في هذه الرؤيا كلمات غريبة، وحفظها؛ فالجمل التي سمعها من جبريل عليه السلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 1-4] هذه الكلمات ليست بالشعر ولا بالكهانة، والرسول صلى الله عليه وسلم أفصح العرب قاطبة، ويعلم أنها ليست من كلام البشر، فهذا زاد من رهبته، وخاصة أن الآيات التي سمعها تتحدَّث عن الإله، الذي يُفَكِّر فيه، ويبحث عنه صلى الله عليه وسلم.
هذا الشعور بالرهبة والخوف دفعه إلى الخروج من الغار، ومحاولة العودة السريعة إلى بيته ليَسْكُن إلى زوجته خديجة رضي الله عنها؛ لكن الأزمة اشتدَّت عندما خرج من معتكفه! لقد سمع صلى الله عليه وسلم صوتًا من السماء في هذا المكان الموحش يقول له: “يا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ”. فيقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: ” فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلَى السَّمَاءِ أَنْظُرُ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ”.
هذا الوصف مهم؛ لأنه مغاير لوصف آخر سيراه رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحقًا، وهذا الذي يُفَسِّر الاختلافات بين الروايات، فهذه المرة الأولى التي رأى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام، رآه في صورة رجل “يقف” في السماء.
كان المنظر مرعبًا -لا شك- لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يصرف نظره حتى لا يرى الأمر، فيقول عن نفسه: “فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ”. ولكن عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك الأمر ليتجنَّب رؤية الرجل الواقف في السماء، إذا به يرى منظرًا أشدَّ رعبًا، وأكثر تخويفًا؛ إذ إنه رأى الرجل في كل الاتجاهات التي حوله! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فَلاَ أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا (أي من السماء) إلاَّ رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ!”.
ثم يُكْمِل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف حالته المرتعبة فيقول: “فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدَّمُ أَمَامِي، وَمَا أَرْجِعُ وَرَائِي حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، فَبَلَغُوا أَعْلَى مَكَّةَ وَرَجَعُوا إلَيْهَا، وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي” [3]. لقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه، وما استطاع أن يتحرَّك، ويبدو أن الموقف أخذ وقتًا طويلاً؛ لأن خديجة رضي الله عنها رأت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تأخَّر عن موعده، فأرسلت رسلها تطلبه في كل مكان؛ لكنه صلى الله عليه وسلم كان قد غادر الغار، ووقف في بطن الجبل، ولم يره الناس، فظلَّ واقفًا هذه المدَّة الطويلة، ثم بعد أن انصرف الرجل الواقف في السماء عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرعة إلى خديجة رضي الله عنها وهو في حالة من الرعب الشديد.
من المؤكد أن ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً في التفكُّر في هذا الحدث المهول الذي رآه منذ لحظات؛ فالرجل الواقف في السماء صرَّح أن محمدًا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصرَّح بكينونته هو؛ حيث عرَّف نفسه على أنه جبريل؛ لكنه لم يُكَلِّفه بشيء، والواقع أننا لا ندري إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم على وجه اليقين أن هذا الزمان هو زمان ظهور نبي، أو أن جبريل هو الملك الذي ينزل على الأنبياء، أم لا يعلم هذه الأمور؛ فالسيرة لم تُوَضِّح هذه النقطة.
نعم ذكر ورقة بن نوفل قبل البعثة لخديجة رضي الله عنها أنه من المحتمل أن يكون الضوء أو الصوت الذي يُشاهده ويسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الناموس الذي كان يأتي موسى عليه السلام، وذكر لها كذلك أنه من المحتمل أن يُصبح محمدٌ صلى الله عليه وسلم رسولَ الأمة، نعم حدث هذا ولكن تبقى كل هذه الكلمات من ورقة وغيره مجرَّد احتمالات لا يدعمها دليل قطعي؛ ومن ثَمَّ فهي تندرج تحت الظنون لا اليقين، ولذلك عاد صلى الله عليه وسلم وهو خائف بشدَّة من الحدث، لا يدري على وجه الحقيقة إن كان أمر الرسالة والنبوة سيتحقق كما أنبأه الرجل الواقف في السماء، أم أنها أوهام لا يدري ما تفسيرها.
وقفة تأمل مع اللحظات الأولى لتلقي الوحي:
وخوف الرسول صلى الله عليه وسلم في اللحظات الأولى لتلقي الوحي لا بُدَّ أن نتوقَّف معه؛ لأن هذا أمر متكرِّر عند لحظات الوحي الأولى مع بعض الأنبياء، وقد قصَّ لنا القرآن الكريم قصة اللحظات الأولى من الوحي التي مرَّ بها موسى عليه السلام، وهي اللحظات الوحيدة التي شُرحت في القرآن الكريم عن هذه الصورة، ونقل لنا فيها ربنا عز وجل ما يدلُّ على خوف موسى عليه السلام كذلك، عندما نزل عليه الوحي للمرة الأولى، يقول الله عز وجل على سبيل المثال في سورة النمل: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] وقال تعالى: { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص: 31]. فالخوف الذي حدث مع موسى عليه السلام بسبب رؤية العصا تتحوَّل إلى حيَّة، حدث مع رسولنا صلى الله عليه وسلم بسبب الضمَّة الشديدة، التي ضمَّها إيَّاه جبريل عليه السلام في الرؤيا، ثم بعد ذلك عندما رأى جبريل عليه السلام واقفًا في السماء يخاطبه، ولعلَّنا نتفكَّر في سبب هذه الحالة من الخوف التي انتابت الرسولين الكريمين عليهما الصلاة والسلام عند بداية الوحي؛ فنقول: لعلَّ الحكمة من وراء ذلك أن يُدرك النبيُّ أن هذا الأمر حقيقة، وليس نوعًا من الخيال أو الأوهام، كما أن هذا يلفت النظر إلى بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو -وإن كان مؤيدًا بالوحي، ومتابعًا من الله عز وجل بشكل مباشر- فإنه في النهاية بشر.
وقد أمر الله عز وجل رسولنا الكريم أن يُصَرِّح بهذه الحقيقة في مواقف كثيرة من القرآن الكريم؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. وهذا كثير في القرآن الكريم بهدف إثبات بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يُغالي الناس بعد ذلك فيه، ويرفعوه إلى مقامات أعلى من مقامات البشرية، كما فعلوا قبل ذلك مع عيسى عليه السلام، وقد يكون هذا الخوف -أيضًا- لإثبات عدم تشوُّف الرسول صلى الله عليه وسلم للرسالة، أو توقُّعه إيَّاها، وهذا يُؤَكِّد صدق النبوة، وصدق الوحي، وأنه ليس من اختراع أو ابتداع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يكون لأسباب أخرى غير التي ذكرناها؛ لكنها في النهاية حقيقة مشاهَدَة، وأمر واقع، أنه كان صلى الله عليه وسلم في حالة شديدة من الخوف عندما مرَّت به هذه الأحداث الكبيرة.
[1] البخاري: كتاب التفسير، سورة العلق، (4673).
[2] ذكر العلامة ابن المبارك نقلاً عن العارف بالله شيخه عبد العزيز الدباغ؛ أنه قال في كتابه الإبريز ما نصه: رسم القرآن سر من أسرار الله المشاهدة وكمال الرفعة، قال ابن المبارك: فقلت له: هل رسم الواو بدل الألف في نحو: “الصلاة، والزكاة..”. وزيادة الواو في “سأوريكم، وأولئك…”. وكالياء في نحو: “هديهم، وملائه…”. هذا كله صادر من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة؟ فقال: هو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمر الكُتَّاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة، فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت له: إن جماعة من العلماء ترخصوا في أمر الرسم، وقالوا: إنما هو اصطلاح من الصحابة مشوا فيه على ما كانت قريش تكتب عليه في الجاهلية، وإنما صدر ذلك من الصحابة لأن قريشًا تعلموا الكتابة من أهل الحيرة، وأهل الحيرة ينطقون بالواو في الربا فكتبوا على وفق منطقهم، وأما قريش فإنهم ينطقون فيه بالألف، وكتابتهم له بالواو على منطق غيرهم وتقليد لهم، حتى قال القاضي أبو بكر الباقلاني: “كل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه..” فقال: ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها؛ لأسرار لا تهتدي إليها العقول، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضًا معجز، وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في مائة دون فئة، وإلى سر زيادة الياء في “بأييد وبأبيكم”؟ أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في “سعوا” بالحج ونقصانها من “سعو” بسبأ؟ فكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية، وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني. انظر: محمد عبد العظيم الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، 1/382-385.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية 1/236، والطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/300، وابن كثير: البداية والنهاية 3/18، وفي سيرة ابن إسحاق المطبوعة الرواية “عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان… عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله…”. انظر: ابن إسحاق: السير والمغازي، 1/167، وقال الصوياني: إسناده صحيح: رواه ابن إسحاق: حدثنا وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عميرة بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله من النبوة.. وهذا الإسناد صحيح: ابن إسحاق لم يدلس، ووهب تابعي ثقة.. انظر: تخريج أحاديث السيرة (1/223)، وسيرة ابن كثير (1/402). انظر: الصوياني: السيرة النبوية 1/64، وقال البرزنجي في صحيح وضعيف تاريخ الطبري: إسناده ضعيف، ورواه بطوله ابن هشام في سيرته… قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان… وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي. وهذا إسناد مرسل صحيح، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث… قلنا: والحديث حسن بمجموع طرقه. انظر: صحيح وضعيف تاريخ الطبري، 2/14.