ولادته (عليه السلام): ولد بالأبواء بين مكة والمدينة يوم الأحد في 7 صفر سنة 128 ه.
إمامته (عليه السلام): كان (عليه السلام) نموذج عصره، وفريد دهره، جليل القدر، عظيم المنزلة، مهيب الطلعة، كثير التعبد، يطوي ليله قائما ونهاره صائما، عظيم الحلم، شديد التجاوز، حتى سمي لذلك كاظما، لاقى من المحن ما تنهد لهولها الجبال فلم تحرك منه طرفا، بل كان (عليه السلام) صابرا محتسبا كحال آبائه وأجداده (عليهم السلام). يعرف بأسماء عديدة منها: العبد الصالح، والكاظم، والصابر، والأمين.
قال ابن الصباغ: روى عبد الأعلى عن الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام): خذ بيدي من النار، من لنا بعدك؟ فدخل موسى الكاظم وهو يومئذ غلام، فقال (أي الصادق (عليه السلام)): ” هذا صاحبكم فتمسك به ” (1).
قال الشيخ المفيد: هو الإمام بعد أبيه، والمقدم على جميع بنيه، لاجتماع خصال الفضل فيه، وورود صحيح النصوص وجلي الأقوال عليه من أبيه بأنه ولي عهده والإمام القائم من بعده (2).
وقد تولى منصب الإمامة بعد أبيه الصادق (عليه السلام) في وقت شهدت فيه الدولة العباسية استقرار أركانها وثبات بنيانها، فتنكرت للشعار الذي كانت تنادي به من الدعوة لآل محمد – عليه وعليهم السلام – فالتفتت إلى الوارث الشرعي لشجرة النبوة مشهرة سيف العداء له ولشيعته تلافيا من تعاظم نفوذه أن يؤتي على أركان دولتهم وينقضها، فشهد الإمام الكاظم (عليه السلام) طيلة سني حياته صنوف التضييق والمزاحمة، إلا أن ذلك لم يمنعه (عليه السلام) من أن يؤدي رسالته في حماية الدين وقيادة الأمة، فعرفه المسلمون آية من آيات العلم والشجاعة، ومعينا لا ينضب من الحلم والكرم والسخاء، ونموذجا عظيما لا يدانى في التعبد والزهد والخوف من الله تعالى.
جوانب من سيرته العطرة (عليه السلام): ولقد أفرد الباحثون والمحققون مصنفات كثيرة في سيرة هذا الإمام العظيم، كفتنا عن التعرض لها هنا في هذه العجالة، إلا أننا سنحاول في هذه الصفحات التعرض لجوانب مختارة من تلك السيرة العطرة:
(1) الفصول المهمة: 231.
(2) لاحظ للوقوف على تلك النصوص الكافي 1: 307 – 311، إثبات الهداة 3: 156 – 170 فقد نقل في الأخير 60 نصا على إمامته. (*)
1 – روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده قال: حج هارون الرشيد فأتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) زائرا، وحوله قريش ومعه موسى بن جعفر، فلما انتهى إلى القبر قال: السلام عليك يا رسول الله يا بن عمي – افتخارا على من حوله – فدنا موسى بن جعفر فقال: ” السلام عليك يا أبة ” فتغير وجه الرشيد وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقا ! (1).
2 – ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار: أن هارون كان يقول لموسى بن جعفر: يا أبا الحسن خذ فدكا (2) حتى أردها عليك، فيأبى، حتى ألح عليه فقال: ” لا آخذها إلا بحدودها ” قال: وما حدودها؟ قال: ” يا أمير المؤمنين إن حددتها لم تردها “، قال: بحق جدك إلا فعلت، قال: ” أما الحد الأول فعدن ” فتغير وجه الرشيد وقال: هيه، قال: ” والحد الثاني سمرقند ” فأربد وجهه، قال: ” والحد الثالث إفريقية ” فاسود وجهه وقال: هيه، قال: ” والرابع سيف البحر مما يلي الخزر وإرمينية “، قال الرشيد: فلم يبق لنا شئ، فتحول في مجلسي، قال موسى (عليه السلام): ” قد أعلمتك أني إن حددتها لم تردها “. فعند ذلك عزم على قتله (3).
3 – كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثم يعقب حتى تطلع الشمس
(1) وفيات الأعيان 5: 309.
(2) قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة، أفاءها الله تعالى على رسوله (صلى الله عليه وآله) صلحا سنة سبع من الهجرة، وأعطاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ابنته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، وكانت ملكا لها في حياته تستفيد من خيراتها، إلا أن أبا بكر حرمها منها، فاغتاظت منه الزهراء وحاججته في ذلك الأمر لكنه أبى، وبقيت فدك هكذا حتى ردها الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز إلى أبناء فاطمة (عليها السلام) ثم نزعها منهم يزيد ابن عبد الملك، فلم تزل في أيدي الأمويين حتى ولي العباسيون فدفعها أبو العباس السفاح إلى الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم أخذها المنصور، ثم أعادها ولده المهدي، ثم أخذها موسى الهادي، إلى أن ولي المأمون فأعادها إليهم.
(3) ربيع الأبرار 1: 315. (*)
ويخر لله ساجدا، فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتى يقرب زوال الشمس. كان يدعو كثيرا فيقول: ” اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب “، ويكرر ذلك. وكان من دعائه (عليه السلام): ” عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك “. وكان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع. وكان أوصل الناس لأهله ورحمه. وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل، فيحمل إليهم الزنبيل فيه العين والورق والأدقة والتمور، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أية جهة هو (1).
4 – في تحف العقول للحسن بن علي بن شعبة: قال أبو حنيفة: حججت في أيام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فلما أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز أنتظر إذنه، إذ خرج صبي فقلت: يا غلام أين يضع الغريب الغائط من بلدكم؟ قال: ” على رسلك “، ثم جلس مستندا إلى الحائط، ثم قال: ” توق شطوط الأنهار، ومساقط الثمار، وأفنية المساجد، وقارعة الطريق، وتوار خلف جدار، وشل ثوبك، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، وضع حيث شئت ” فأعجبني ما سمعت من الصبي فقلت له: ما اسمك؟ فقال: ” أنا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ” فقلت له: يا غلام ممن المعصية؟ فقال: ” إن السيئات لا تخلو من إحدى ثلاث: إما أن تكون من الله وليست من العبد، فلا ينبغي للرب أن يعذب العبد على ما لا يرتكب، وإما أن تكون منه ومن العبد – وليست كذلك – فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإما أن تكون من العبد – وهي منه – فإن عفا فكرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته “. قال أبو حنيفة: فانصرفت ولم ألق أبا عبد الله واستغنيت بما سمعت.
(1) الإرشاد: 296. (*)
وروى ابن شهرآشوب في المناقب نحوه إلا أنه قال: ” يتوارى خلف الجدار ويتوقى أعين الجار “، وقال: فلما سمعت هذا القول منه نبل في عيني، وعظم في قلبي. وقال في آخر الحديث: فقلت: { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍُ } (1). (2)
5 – روى أبو الفرج الأصفهاني: حدثنا يحيى بن الحسن قال: كان موسى بن جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير. وكانت صراره ما بين الثلاثمائة وإلى المائتين دينار، فكانت صرار موسى مثلا. وقال: إن رجلا من آل عمر بن الخطاب كان يشتم علي بن أبي طالب إذا رأى موسى بن جعفر، ويؤذيه إذا لقيه، فقال له بعض مواليه وشيعته: دعنا نقتله، فقال: ” لا ” ثم مضى راكبا حتى قصده في مزرعة له فتواطأها بحماره، فصاح: لا تدس زرعنا. فلم يصغ إليه وأقبل حتى نزل عنده، فجلس معه وجعل يضاحكه، وقال له: ” كم غرمت على زرعك هذا “؟ قال: مائة درهم. قال: ” كم ترجو أن تربح “؟ قال: لا أدري. قال: ” إنما سألتك كم ترجو “. قال: مائة أخرى. قال: فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبه له، فقام فقبل رأسه، فلما دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلم عليه وجعل يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته. وكان بعد ذلك كلما دخل موسى خرج وسلم عليه ويقوم له، فقال موسى لجلسائه الذين طلبوا قتله: ” أيما كان خيرا ما أردتم أو ما أردت ” (3).
6 – حكي أن الرشيد سأله يوما: كيف قلتم: نحن ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنتم بنو علي، وإنما ينسب الرجل إلى جده لأبيه دون جده لأمه؟ فقال الكاظم (عليه السلام): ” أعوذ
(1) آل عمران: 34.
(2) تحف العقول 303، المناقب لابن شهرآشوب 4: 314.
(3) مقاتل الطالبيين: 499 – 500، تاريخ بغداد 28. (*)
بالله من الشيطان الرجيم { بسم الله الرحمن الرحيم… وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ… } وليس لعيسى أب إنما ألحق بذرية الأنبياء من قبل أمه، وكذلك ألحقنا بذرية النبي من قبل أمنا فاطمة الزهراء، وزيادة أخرى قال الله عز وجل: { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ… } ولم يدع (صلى الله عليه وآله) عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين وهما الأبناء ” (1).
7 – أما علمه والحديث عنه فقد روى عنه العلماء في فنون العلم ما ملأ الكتب، وكان يعرف بين الرواة بالعالم. وقد روى الناس عنه فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله (2).
وفاته: وقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن هارون الرشيد قام باعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام) وإيداعه السجن لسنين طويلة مع تأكيده على سجانيه بالتشديد والتضييق عليه.
قال ابن كثير: فلما طال سجن الإمام الكاظم (عليه السلام) كتب إلى الرشيد: ” أما بعد إنه لم ينقض عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يفضي بنا ذلك إلى يوم يخسر فيه المبطلون ” (3).
ولم يزل ذلك الأمر بالإمام (عليه السلام)، ينقل من سجن إلى سجن حتى انتهى به الأمر
(1) الفصول المهمة: 238، والآيتان من سورتي الأنعام 84، وآل عمران 61.
(2) المفيد، الإرشاد: 298، ولاحظ جوانب من حكمه ووصاياه في الكافي 1: 13 – 20، تحف العقول: 283.
(3) البداية والنهاية 10: 183. (*)
إلى سجن السندي بن شاهك (1)، وكان فاجرا فاسقا، لا يتورع عن أي شئ تملقا ومداهنة للسلطان، فغالى في سجن الإمام (عليه السلام) وزاد في تقييده حتى جاء أمر الرشيد بدس السم للكاظم (عليه السلام)، فأسرع السندي إلى إنفاذ هذا الأمر العظيم، واستشهد الإمام (عليه السلام) بعد طول سجن ومعاناة في عام 183 ه.
ولما كان الرشيد يخشى ردة فعل المسلمين عند انتشار خبر استشهاد الإمام (عليه السلام)، لذا عمد إلى حيلة ماكرة للتنصل من تبعة هذا الأمر الجلل، فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني وغيره (2): أن الإمام الكاظم لما توفي مسموما أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد، وفيهم الهيثم بن عدي وغيره ليشهدوا على أنه مات حتف أنفه دون فعل من الرشيد وجلاوزته، ولما شهدوا على ذلك أخرج بجثمانه الطاهر ووضع على الجسر ببغداد ونودي بوفاته.
ودفن في بغداد في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش المشهورة في أيامنا هذه بالكاظمية.
فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد سجينا مظلوما مسموما، ويوم يبعث حيا.
(1) قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين: 502: لما اعتقل الرشيد الإمام الكاظم (عليه السلام) أمر بإرساله إلى البصرة ليسجن عند عيسى بن جعفر المنصور، وكان على البصرة حينئذ، فحبس عنده سنة، ثم كتب إلى الرشيد: أن خذه مني وسلمه إلى من شئت، وإلا خليت سبيله، فقد اجتهدت أن آخذ عليه حجة فما أقدر على ذلك، حتى أني لأتسمع عليه إذا دعا لعله يدعو علي أو عليك، فما أسمعه يدعو إلا لنفسه، يسأل الله الرحمة والمغفرة. فوجه الرشيد من تسلمه، وحبسه عند الفضل بن الربيع في بغداد، فبقي عنده مدة طويلة، ثم كتب إليه ليسلمه إلى الفضل بن يحيى، فتسلمه منه، وطلب منه أن يعمد إلى قتل الإمام كما طلب من عيسى بن جعفر فلم يفعل، بل عمد إلى إكرام الإمام (عليه السلام) والاحتفاء به، ولما بلغ الرشيد ذلك أمر به أن يجلد مائة سوط، ثم أخذ الإمام منه وسلمه إلى السندي بن شاهك لعنه الله، وكانت نهاية حياة الإمام الطاهرة على يده الفاجرة.