الفصل الرابع
لو كان الغضب رجلاً لقتلته في تلك اللحظة.
كان صدى هذه الكلمات يتردد في ذهنها بإستمرار .
كانت غاضبة لأبعد الحدود من يري عينيها سيظنهما جمرًا متقد ، شعرها المتطاير خلفها ثائرًا وخطواتها العصبية جيئة وذهاباً ! .
لحظات وصوتها كان يصم الأذان وهي تصرخ بغضب ، لم يسلم منها زجاج النوافذ فتهشم ! ، جلست على الأرض الباردة تتنفس بسرعة وصدرها يعلو ويهبط أغمضت عيناها ثم ما لبثت أن ظهر شبح ابتسامة على شفتيها لتحسم أمرها بخطوتها التالية ، ولم تكن سوى إستخدام عروس الماريونت خاصتها !! .
وصل رويد إلى قصره ليلاً وهو متلحف بالسواد ، يحمل حقيبة أوراق في يده ، فتح باب قصره وتوجه مباشرةً إلى قبو منزله لكنه توقف عندما رأى أن الممر مضاء ! ، نظر حوله متسائلاً عمن واتته الجرأة لإقتحام قصره ، ثم حدث نفسه بصوت خافت ” براء … قسمًا بربي سأقتله ” .
فتح الباب سريعاً لتتسع عيناه من الصدمة ليقول بغضب :
– تيارا ماذا تفعلين هنا ! .
توترت تيارا إثر سماع صوته وتسارع نبضها والتفتت ببطئ شديد ناظرة إلى موضع قدميها وقالت بتردد :
– حمًدا لله على سلامتك سيد رويد .
رد عليها رويد بنفس نبرة الغضب وقد احتدت نظراته لتبدو وكأنها تطلق الشرارات :
– سألتُكِ ماذا تفعلين هنا ؟! .
تعلثمت وهى ترد عليه قائلة :
– لقد … لقد أتيت للإطمئنان عليك .
- لماذا ، ما بي لتطمئني علي ؟! .
-
سيدى ، أنت لم تأتي للعمل منذ ثلاثة أيام ، وهذا الأمر أصابني بالقلق لذا أتيت بعد أن أنهيت إلتزاماتي لليوم فأنت تسكن وحدك ولا أحد يقوم بخدمتك ، فخشيت أن تكون مريضًا لذلك اتيت .
رفع رويد حاجبه وهو غير مقتنع ليردف :
– أتريني إذا مرضت لست بقادر على أن أتصل بالطبيب بنفسى ، لا أصدقكِ تيارا وخمس سنوات من الثقة لا أعتقد أنها ستغفر لكي اقتحامكِ لمنزلي .
سقطت دموع تيارا فوراً وقالت :
– أقسم لك أني أتيت للإطمئنان عليك ، وها أنت قلتها بنفسك خمس سنوات ولم أخذلك يوماً خمس سنوات وأنا أخدمك بإخلاص ، لدي الحق بأن تصدقنى .
رد عليها رويد منفعلًا :
-لدى الحق بأن أشك بأى أحد ، فأنا أحيا على الشك ولا أثق بأحد مهما كانت مكانته عندي ، فالكل مدان ، وأنتِ دون الآخرين تعلمين قدسية هذا المكان ، خمس سنوات تدخلين كل مكان في القصر دون أي إعتراض مني إلا هذا المكان فما الذي تغير الآن !! .
صمتت تيارا عن الحديث لا تجد شيئاً تقوله فهو محق فى كل كلمة ، تباً لذلك الفضول .
- أجيبيني تيارا مالذى تغير !!! .
تحركت تيارا قليلاً بجواره وحاولت تمالك نفسها والتوقف عن البكاء ونظرت إليه ببراءة وقالت :
– قلت لك الحقيقة وأنت لاتصدقنى ، أقسم أني جئت للإطمئنان عليك ليس إلا ، سيادتك لك الحق فى أن تعاقبني كيفما تشاء ، ولكن سأكررها لك لم أخذلك يومًا ولا أظن أني سأفعل .
اخذ رويد نفسًا عميقًا وهدأ نسبيًا قائلاً :
– حسناً تيارا ، أول خطأ لكي لذلك سأتغاضى عنه .
كادت تيارا أن ترحل حتى استوقفها ووضع يضع يده على كتفها وقال :
– الفضول معي لن يجرك سوى للمتاعب .
أومأت برأسها وقالت :
– آسفة .
ورحلت دون إضافة أي كلمة أخرى ، زفر رويد بضيق ونظر إلى باب القبو وقال گأنه يحدث ذلك الباب ” كم من شخص سيموت من أجل الفضول ” !!! .
نائمًا على فراشه وجسده متدثر تحت الغطاء بإهمال ، جبينه متعرق بشدة وفمه يهذي بكلمات خافتة غريبة ، أنامله ترتعش بطريقة تثير الرعب في قلب من يراه ، بدأت كلماته تعلو شيئاً فشيئاً إلا أن تحولت لصراخ مستغيث بوالدته ووالده ، دخلت جوانة الغرفة بملامح قلقة وهرولت إليه تضع راحة كفها على جبينه تتمتم بعض كلمات فخفت صراخ تيم ، تحرك كفها من جبينه لقلادته تمسكها بخفة وفمها مازال يتمتم بكلمات غريبة ، والغريب أكثر أن تيم توقف عن الهذيان والأرتعاش وبدا هادئًا تمامًا ، تركت جوانة القلادة وجلست بجانبه تتنهد براحة ، فهي أستطاعت السيطرة عليه ، ولكن ما يثير ذعرها تفكيرها في عدم سيطرتها عليه في المرات المقبلة فما يحدث لتيم يدل على شيئاً أكبر مما ظنوا جميعهم !! .
وقف رويد قليلاً مكانه بعد أن رحلت تيارا و بخطوات متمهلة دخل لنهاية الممر وضغط على زر لتظهر اللوحة التى ظهرت لتيارا سابقاً ، فانفتح الباب وأفضى إلى ممر آخره مسدود وقف فى منتصفه ، ضغط على زر آخر فظهرت فتحه في أرضية الممر تُظهر درچًا نزل عليه رويد حتى وصل إلى باب آخر يوضع عليه أشعة من الليزر تختفي عندما يقرب وجهه من الجهاز على يمين ذلك الباب ليتعرف عليه وقفل آخر ببصمة يده .
دخل إلى حجرة دائرية الشكل يوجد بها الكثير من الرفوف في جوانبها محملة بالكثير من المقتنيات القيمة ،ثروة عائلته التي كلفتهم حياتهم !!! .
فتح حقيبته وأخرج منها بعض المخطوطات ووضعها على أحد الجدران بجوار أخرى ، لينظر إليهم ملياً ويسجل بعض الكلمات في دفتر موضوع على طاولة أمام ذلك الجدار ، ليستدير إلي الخلف ليجد تمثال محنط مخيف يوضع أمامه مقعد ، ليجلس عليه بأريحية وينظر إليه بتركيز ليعيد إليه ذكريات من خمسة وعشرين عاماً مضت… .
في نفس المكان يجلس جده على نفس المقعد وأمامه نفس التمثال أو الجثة المحنطة .
بينما هو يجلس أسفل قدم جده الذى يربت على رأسه مواسيًا إياه قائلاً له بحنان :
– الحزن لن يعيد ما مضى بني ، لقد مر عامًا وأنت بنفس حالتك ، تأتى لهنا وتجلس ساعتين أو أكثر .
رفع رويد رأسه وعيناه مليئة بالدموع قائلاً بحزن :
– لكي لا أنسى ياجدى ، أن هذا التمثال هو السبب في موت والدتي .
- هون عليك بني أنه قانون هذا العمل ، أمام تلك المكاسب يوجد بالتأكيد خسائر .
وقف رويد مستنكراً وقال بغضب :
– وهل الروح من تلك الخسائر ، هل خسارة أمي ثمن قيم للحصول على ذلك الشيء .
- اهدأ واجلس ، والدتك كانت محبة لذلك العمل أكثر من والدك نفسه بل أن الحب الذى جمع بينهم كان أساسه هذا الشغف الخاص بالتاريخ والبحث الأثري ، والدتك ووالدك لم يستهويهم المال يومًا ، والأموال التى درّت عليهم منه كانت بالنسبة إليهم مكسب مضاف ليس أكثر ، هل تعلم أن نصف ثروة والدك قاما الأثنان بصرفها في رحلتهم للحصول على هذا التمثال… .
قاطعه رويد قائلاً :
– بل خسارته أكبر جدي فهو فقد زوجته التي من كان يقول دوماً أنه يحبها .
- لا تقل ذلك رويد هل تشكك فى حب والدك لأمك رحمها الله ، يشهد الله على محبتهم تلك ، من أين كان ليعلم والدك أنه ملاحق من أشخاص آخرين ؟! .
-
هل مازلت تصدق تلك الكذبة ، شيئًا مثل هذا بالتأكيد سيكون محط أنظار الجميع والحصول عليه بأي ثمن جدي .
جلس رويد كما كان ثم ضم قدمه إلى صدره وقال :
– لن أسامح أبي أبدًا ، وأتمنى أن يلقى نفس المصير .
ربت جده على كتفه فى حزن وقال :
– لا أعلم كم شخص سيموت بسبب الفضول… .
عاد رويد من ذكراه بعد أن تبللت شفتيه بدموعه وردد لنفسه ” حقا كم شخص مات وسيموت ” !! .
مرت عدة أيام عليه بعد إعتذاره لها ، لتمر الأيام بينهما هادئة نوعًا ما ، ممسكًا بجريدته الصباحية يقرأها بإهتمام ليري خبر آخر عن ذلك القاتل المجهول وطريقته الوحشية في القتل ، جذب إنتباهه ما كُتب ليقرأه
” طريقة وحشية في القتل والمجرم خارجًا يعثو في الأرض كيفما يشاء ، والشرطة كل ما لديهم أن القاتل محترف بالطريقة التي لا يترك فيها أثرًا خلفه ، القتلى ثلاثة رجال عُرف أنهم كانوا سابقاً يعملون في التنقيب عن الآثار والأشياء نادرة الوجود فهل عملهم هذا له صلة بقتلهم أم أنها محض الصدفة !؟ ” إنتهي من القراءة ليلقي بالجريدة أمامه
وكأن الأمر لا يعنيه !! .
ذهب للعمل ودخل مكتبه ليجدها مكانها بإبتسامتها المعتادة ليلقي عليها تحية الصباح ويدخل مكتبه وهي خلفه معها قهوته الداكنة كما يفضل ومفكرتها .
وضعت أمامه القهوة ثم شرعت تخبره بجدول أعمال اليوم .
في منتصف اليوم دلف أحدهم لمكتبه كعادته ولم يكن سوي صديقه أيهم ليجده منكبًا على أوراقه يعمل بجدية ، ليبتسم بحزن على صديقه الذي تغيرت حياته مائة وثمانين درجة ، ليخفي حزنه ببراعة ويشاكسه قائلاً :
– هل يجدر بي أن أخذ موعدًا قبل رؤيتك ، أو قد تضعني مساعدتك في قائمة الإنتظار ياتري .
رد عليه كنان بجدية مصطنعة :
– لم أعطِك الإذن بالدخول بالمناسبة .
قال أيهم بصدمة :
-ماذا … هل حقًا تعي ما تقول !! .
كنان محاولاً إكمال جديته :
– نعم أعي ما أقول ، أخبرني كيف دخلت إلى هنا .
رد عليه أيهم بغضب :
– أتدري انا المخطئ لأني أردت رؤيتك ، سأرحل ولن أعود مرة أخرى .
وعند هذا الحد إنفجر كنان ضاحكًا ليندهش أيهم من رد فعل صديقه فيعلم أنها مزحة .
أقترب منه يمسك رأسه تحت ذراعه يلكمه
بالأخرى في معدته بخفة كي لا تؤلمه بينما تتعالي أصوات ضحكاتهم سويًا ، فتسمعها من بالخارج لتشق البسمة طريقها إلى شفتيها بلا إستئذان .
بعد أن هدأ كلاهما جلسا يتحدثان قليلاً عن العمل ليطلب كنان لكلاهما قهوة فسأله أيهم بحذر :
-ألن تعود للغناء مرة أخرى كنان ، جمهورك يفتقدك يا صديقي .
تغيرت ملامح وجهه وظهر عليه الجمود ورده قاطعًا :
– لا .
أحضرت لكليهما القهوة بابتسامة هادئة لتضعها أمامهما وقبل خروجها عاجلها أيهم بسؤاله :
– أخبريني تيا هل أنتِ واحدة من جمهور كنان؟ ،
الجمت تيا الصدمه لترد بخفوت :
– أجل .
ليسألها أيهم مره اخرى :
– إذا أنتِ منزعجة من توقفه عن الغناء ؟! .
تيا بإنطلاق وعفوية متناسية خجلها منذ لحظات :
– لست وحدي فحسب جمهوره كله منزعج ، ولكن هذا قراره في النهاية .
ليسألها ايهم مره اخرى :
– ألا تتمني عودته ؟ .
- بلى ، أنا… .
قطع كنان حديثها قائلاً بوقاحة جعلت عيناها تدمع :
– هلا عدتي لعملك يا آنسة لا وقت لترهاتك تلك ، لسنا متفرغين لحديثك التافة هذا ، ولا أهتم برأيك في عودتي للغناء من عدمة ، ليس هذا من شأنك .
وما أن أنهى كلماته اللازعة حتى خرجت مهرولة من مكتبه فهذه ثاني مرة يحرجها بهذه الطريقة لتلملم أشيائها ، وتترك له ورق على مكتبها ، وتخرج دون أن تخبره ، فيكفيها ما شعرت به أمامه اليوم .
بعد خروجها لامه صديقه علي رده عليها وطريقته الوقحة معها ليصمت ، فيستأذن صديقه ويرحل لأنه يدرك أن حديثه معه لن يفيد الآن في حالته تلك .
بعد ساعة من التفكير رأى انه كان فظًا معها في التعامل وأنها لم تخطئ ، ليقرر الذهاب إليها ويري ما سيفعله .
خرج من مكتبه ليجد مكانها فارغًا وورقة مطوية ليمسكها ويقرأ ما بها ليجدها إستقالتها من العمل ، أغمض عينيه وأرجع رأسه للخلف يكور الورقة في يده ثم يلقيها بسلة المهملات ليعلم أنه ضايقها هذه المرة أكثر !! .