محتويات
الفصل العـاشر (الاّخيـــر)
فحاولت ندي أن تصدق أكاذيب ياسر تلك كعادتها .. فكانت تخشي دائماً من أنه يملك القوة ليغيب في أي وقت .. بينما هي تضطر لأن تستجدي وجوده بجانبها ..!
و لكن مازاد الأمر حدة بينهم .. ذلك اليوم الذي كانت تجلس فيه ندي و تعبث بأغراض ياسر كعادتها .. فوجدت في محفظته قلادة تحمل أسم ” سـارة ” ..
، فصعقت ندي بمجرد أن رأتها فشعرت أن الأرض تدور من تحت أقدامها .. أما ياسر فبمجرد أن رأي أن تلك القلادة بين يدي ندي.. صعدت الدماء إلي رأسه فكان يظهر ذلك بوضوح في احتقان لون أذنيه التي كادت أن تخرج الدماء منهم ..
، فبدا عليه الإضطراب و إلارتباك الذي حاول أن يواريه خلف صوته العالي .. فجذب القلادة من يد ندي بشدة ثم قال لها .. لما تعبثين بما هو ليس من شأنك ؟! ..
.. فثارت ندي غاضبة و جذبت من بين يديه القلادة ثم أطاحت بها في وجهه ، و قالت .. أتلك القلاة ليست من شأني أيضاً؟! .. لما تترنح بيننا كأي رجل فاسق.. قإذا كنت تحب سارة فإذهب لها ، و أرحمني من تلك القصة المميتة ..
، فصرخ بها ياسر .. ندي لا تقللي الإحترام معي .. فإذا كنتي لا تثقين بي أبداً فلا داع ِ لتلك القصة من الأساس ..فتركته ندي ثائرة و الدموع تنهمر منها .. ثم استندت في إحدي أركان الكلية و هي تحاول أن تقاوم العبرات الخائنة التي تسقط رغماً عنها ..فكان الطلاب خلفها يتهامسون .. أتلك ندي التي لم يكن يُسمع عنها في تلك الجامعة سوي في تكريم الطلبة الأوائل .. فكانت تحاول أن تتواري عن أعين الجميع كما لو كانت تحمل خطيئة .. أيكون الحب خطيئة في ذلك الزمان ؟! .. أيتواري المُحب حتي لا يُمسك بالجرم المشهود .. ؟!
، فكانت صامتة .. فقلبها المتعب لا يتحمل ثقل عابر اّخر مار ليلقي عليه التحية حتي ..!
أتذكر أن خصامهم ذلك دام لأكثر من أسبوع .. قالت لي فيه ندي
” ليس هُنـالك ما هو موجع أكثر من أيام الفقد الاُولي .. فكل الفقد موجع و لكن أصعب أنواعه ذلك الذي غادرك و هو ليس بميت أو بمسافر .. بل هو جوارك لكنه أختار أن يتركك ليكون أحد هزائمك الكبري .. و أختار لك مصيراُ تبتلعك فيه الأحزان كل ليلة ..و أن تغفو أيامك كلها حتي لا تتعرض لهزات انسحابه من حياتك ..و تتمني أن تستيقظ في يوم اّخر لا يحمل وجهه و لا نبضه و لا ضميره الشيطانيَ الذي ودعك .. ! ”
فقالت لي ” ندي ” يومها و هي تصارع البكاء ..
” لطالما أعتقدت أني أحببت الرجل الذي وقفت بين يديه يوماً و هو يصلي و رأيت نظرة التقوي في عينيه .. الرجل الذي أيقظني يوماُ في منتصف الليل لأنه شعر بأنقباضة قلبه فخشي أن يكون أصابني مكروه .. الرجل الذي أنتظرني أمام باب الكلية لساعات و أبَي أن يدخل حتي وصلت .. و لكن عندما رحل .. وجدت أني أحب أيضا الرجل الذي يزمجر في وجهي بقوة.. الرجل الذي ألقاني في أوج احتياجي بكلتا يديه ليحتضن أشيائه التافة..!
أليس الحب أن تشتري سلة التفاح كلها .. وتحب ما فيها من تفاح قد فسد ؟! “
و بعد مرور ذلك الأسبوع حاول ياسر أن يصل إلي ندي بكل الطرق .. فأبت ندي في البداية أن تستجيب له .. فكنت أجلس معها في منزلها اّنذاك حين هاتفها ..
، فطلب فرصة لتبرير موقفه فكان يريدها أن تذهب لتقابله في مكان بعيداً عن الكلية .. و لكنها رفضت و بشدة .. ثم عاد يطلب منها أن تجعله يتحدث معها و لو علي الهاتف حتي ..
فقالت له .. ” غادرتك مًثقلاُ بالاّلم .. و غادرتني مُثقلاُ بالخطـايا
كـلانا أمطــر .. و امتلأت حديقته .. و حصد كلانا ثمار نواياه .. ”
، و لكنها عادت و لانت بعد قليل .. فكانت ندي أم تخشي ضياع أول أبناء قلبها ..!
فعاودت الإتصـال به بقلب مغيب و عقل ثمل .. فظل يغلظ بالأيمان أنه أخذ تلك القلادة من سارة ليعيدها ليوسف ، لأنها تريد أن تتركه و ترد له هداياه .. فتوسط هو بينهم حتي لا يحدث بينهم أي شجار ..
فكانت ندي تدرك أن نهايتهم معاُ قد اقتربت ، كمن يبحر و يري الشط الاّخر يلوح له في الأفق ..و لكنها كانت تريد أن تحتفظ به لأطول فترة مُمكنة .. فلم تكن تريد أن تنتزع السهم الأكثر ألما من قلبها الاّن ..!
فأدعت أنها صدقته و لكن تلك المرة ستعود بشروطها هي و أخبرته أنها ستقول له علي شرطها الوحيد حين تقابله بالجامعة ، ثم نظرت لي بحزن و قالت ..
” مُدعي كاذب ، أعلمه جيداً .. حين يغلظ بالأيمان هكذا .. يكون يواري عني شيئاً ما ”
، فسألتها ، ألم يكن وعدك بالهداية ووفي بوعده حقاً لفترة طويلة ماذا حدث بعد ذلك .. ؟!
فقاطعتني قائلة .. مثلما قال كاظم السـاهر ..
” الشـلة الأولي ، أعادته لضلاله و ضياعه الماضي ..”
و في اليـوم التالي .. كان ياسر متلهفاً لأن يعرف ما هو شرط ندي لأن تعود له مرة اّخري ..
فقالت له ندي .. لطالما قلت لي يا ياسر .. ” أنني صباحية كدوار الشمس ، لا يلتفت سوي للنور .. ” كُل ما أريده في قصتنا تلك هو النور !
، أريد أن تخرج بقصتنا تلك من ظلمات أحداثها إلي نور الشرعية .. فمُنذ البداية كانت خطواتنا خاطئة لعل هذا الذي جعل الله لا يبارك لنا فيها ..!
، قأنا أريد أن أكون الشرعية في حياتك أمام الله ، و أمام الجميع ..
و لا أريد أن تتدخل بيننا الأفعي السوداء – سارة – كما تدعوها نادين ، و لا غيرها من بنات حواء ..
، و ظل ياسر يتناقش معها لأيام حول صعوبة إتخاذه خطوة رسمية و هو مازال طالباً .. و بالأخص أنه دائم الرسوب ..و لكن ندي اصرت تلك المرة علي قرارها و خيرته بينها و بين الفراق للأبد .. و قالت له أن موقفها لا يقل سوءاُ عن موقفه.. فأن تأتي لأهلها بشخص بغير عمل و مازال طالباً .. بعدما رفضت قبله و من أجله المئات الذين يعملون لن يكون شيئاُ يسيراُ ، و أنها لا تطلب منه أن يأتي لها بباقة من أغلي الكنوز بل كل ما أرادته محبس يحمل أسمه فقط .. !
،و أمام إصرار ندي تلك المرة قال لها ياسر سأطرح الأمر علي والدتي .. فقالت له ندي .. أنا لا أجبرك علي شيء .. و لكن لم يعد لي قبل علي علاقة تترنح بي و أنا التي لم أعرف يوماً سوي الإتزان سبيلاً ..!
، ثم قالت ندي أن لها شرطاً اّخر أو يمكن اعتباره طلباً بسيطاُ و هو أن يعطيها قلادة سارة لتتخلص منها ، و كانت تقصد من ذلك الطلب أن تقطع أوصال أي حديث بينه و بين سارة .. فلم يعترض ياسر و أعطاها القلادة ..!
مَر يومان كان يحاول فيهم ياسر اقناع والدته بالتقدم لخطبة ندي .. فخشيت والدته من إلاقدام علي تلك الخطوة .. فيكون ياسر غير مستعد لها و ليس مقصدها الإستعداد المادي فقط .. فالزواج خطوة تحتاج إلي استعداد نفسي و أخلاقي أيضاُ ..
و لكن ما وجدته والدة ياسر .. من تغير جذري في سلوكه كما أن هدوئه و قلة انفعاله عليها جعلها تخطو معه تلك الخطوة ، حينما شعرت أن ندي تأخذ بيده في طريق الهداية .. و في بيت ندي لم يكن الوضع أقل توتراً ، فقد عزم والدها علي رفض ياسر دون أن يراه حتي .. و لكنها دخلت في أكثر من صراع معهم مدافعة عن اختيارها ، حتي وصل بها الأمر أن تخبرهم ” انها إن لم تتزوج ياسر ، فلن تتزوج أبداً ” ..
، فوافق أهلها علي مضض .. و لكن أخبرها والدها أنها ستتحمل نتيجة أختيارها وحدها !
و في بيت ” ندي ” ..
، كنت في الغرفة مع -ندي- حين أرتدت فستانها المزركش الجميل و اردت عليه حاجبها الوردي .. فكأن الحياة عادت لتدب في وجهها من جديد .. فامتزجت بوجنتيها نشوة الفرح مع حُمرة الخجل .. أما عن دقات قلبها فكانت تغطي علي صوت دقات الباب ..
، و بمجرد أن دلفت والدة ياسر من الباب معه ، جلس أهل ندي معهم و بدأوا في تجاذب أطراف الحديث ، حتي شعر أهلها بالألفة تجاه والدته ..
أما والدها فقد جلس بجوار ياسر و بدأ يسأله عن خططه للمستقبل و أحلامه .. ثم أوصاه بعد ذلك علي ندي فهي ابنته الوحيدة و لن يطلب مهر لها سوي أن يتقي الله فيها ..
، و اثناء كُل تلك المحادثات كانت ندي تتواري خلف الستارة التي تفصل بين الصالون و الممر.. فكانت أخجل من أن تخرج لهم .. و كأنها ستري ياسر جديد ..
و لكن حين نادتها والدتها لتسلم علي والدة ياسر لم يكن هناك مفراً من المواجهة .. فدخلت عليهم و هي تحرك عينيها بينهم و بين الأرض .. فقال لها ياسر مداعباً ” السجاد في بيتكم جميل جداً ، و لكن لا يعني هذا أن تظلي تنظري له طيلة الوقت ” .. فنظرت له ندي و كادت أن تنفجر من الضحك و لكن والدها نظر لها نظرة ذات معني فتوقفت ..
، ثم جلست ندي تتحدث مع والدة ياسر ، فتارة تحمد لله علي أن رزق ياسر بفتاة مهذبة مثلها ، و تارة تمدح جمالها ..
ثم اتفق الأهل علي قراءة الفاتحة ذلك اليوم ، وشراء المحابس في نهاية الأسبوع مع احتفال بسيط يجمع الأقارب فقط ..
، فقاطع أحمد نادين قائلاً .. و لكن كيف يقوم ياسر بخطبة ندي و لم تبلغني أمي أو حتي هو بنفسه ..
فقاطعته نادين قائلة .. لأنه لم يحدث شيئاُ يُـقال ..أو بمعني أصدق ما حدث صعب أن يقال ..
فقال أحمد .. و لكن كيف ذلك ، قص ِ لي ما حدث ..
فقالت له نادين .. بعد ذلك أنشغلت أنا و ندي في إلاعداد لتلك الحفلة .. فبحثنا كثيراُ عن فستان بسيط جاهز يناسب تلك المناسبة ..لأن الوقت كان يداهمنا ..
حتي وجدنا رداء جميل باللون -الازرق السماوي- الذي يفضله ياسر ..
، فكانت ندي تُعد لذلك الإحتفال بسعادة عارمة .. و كأنه إكسيـر الحياة بالنسبة لها ..
.. و تلك السعادة جعلتها غير مكترثة بأفعال ياسر معها تلك الفترة .. حتي أنا لم أكن أصدق أن تلك القصة التي وُلدت علي يدي .. ستنتهي النهاية السعيدة التي طالما تمنتها ندي ..
، و لكن ياسـر أختفي من الوسط ذلك الأسبوع و حين كانت تهاتفه ندي .. كانت تجده مشغول كعادته مع أصدقائه ففي يوم هم يحتفلون به و بخبر خطبته .. ويوم اّخر لا يجيب عليها من الأساس ..
، و لكنها لم تكن مهتمة فهي تشعر أنه أصبح الاّن ملكها من حقها هي وحدها .. فقامت بدعوة معظم أقاربها و اصدقائها القريبين فقط .. فكأنها كانت تريد أن تدعو العالم أجمع لتخبرهم بأن الرجل السيء الذي أحبته ، أنتصر علي نفسه من أجلها ..!
، و لكن ياسر بعد ذلك اختفي تماماً .. و عندما فشلت ندي في الوصول إليه هاتفت والدته .. و كان صوتها مضطرب فأخبرتها أن بمجرد عودته ستجعله يهاتفها فوراً ..
بدأ القلق يبث نفسه إليها رويداً رويداُ .. فكانت تخشي أن يكون حدث له مكروه و لكن عندما وجدت اسمه علي شاشة هاتفها اطمئنت قليلاً ..
، و بمجرد أن أجابت عليه بدأت أن تقص عليه خططها و شغفها بيوم غد .. أما ياسر فتقريباً كان يستمع إليها صامتاً .. و حين سألته ما رأيك أن تكون أول أغنية نبدأ بها الحفل أغنية لعمرو دياب تقول ..
” و الله و هتجمعنا الحياة كان حلم غالي .. ”
فرد عليها ياسر .. ليس بحلم غال ِ و لا شيء !
ثم سادت فترة صمت لمدة دقيقتين .. قطعتها ندي بصوت مُختنق قائلة .. ماذا تقصد يا ياسر ..؟!
فقطاعها ياسر .. ألا تشعري بأننا تسرعنا في تلك الخطوة .. أنا أحبك يا ندي و لكني لست مستعد لتلك الخطوة .. أنتي التي أجبرتيني علي اتخاذها .. ماذا كان سيحدث أذا ظللنا نحب بعضنا هكذا دون ارتباط رسمي يقيدنا ؟! ..
، فكانت ندي تتصارع مع الكلمات لتخرج قبل أن تقف في حلقها أكثر من ذلك و تخنقها .. فكانت تشعر بأن قلبها سيخترق قفصها الصدري .. فقالت وهي تشهق بالبكاء ..” ياسر فرحنا غداً يا ياسر ”
، فرفع صوته بشدة و صرخ بها .. ” أعطني والدك لأشرح له موقفي .. أنا لن أستطيع أن اّتي غداُ .. ”
.. فكان صوته العالي يخيفها جداً ، و كأنها بحضرة شخصاُ لا تعرفه .. وأكثر ما كانت تخشاه أن يجن حقاُ و يهاتف والدها بعد كل ما تكبدته من عناء لإقناعهم .. أما عن فضيحتها أمام جميع الذين دعتهم فذلك شيء اّخر ..
، فكانت تركض لتغلق الباب و كأن صوته سيتسرب إلي أهلها خلسة ..و تغلق كل النوافذ و كأن هواء النوافذ يتسرب لداخل قلبها .. فكانت تسمع صوت ياسر ممتزج بصراخ والدته التي كانت تقول له .. حرام عليك بنات الناس !
ثم أغلق ياسر الهاتف في وجهها ..و بمجرد أن سمعت النغمة المخصصة لهاتف والدها .. أعتراها ..
” ذلك الشعور الذي يشبه أول يوم مدرسة .. حين يعتريك الخوف فكل الوجوه حولك لا تعرفها .. و يعتريك البرد فتريد أن تهرب إلي حضن والدتك الدافيء و لكن لا سبيل تعرفه إليها .. ”
، ففقدت ندي الوعي اّنذاك ، فلم يكن لها قبل علي مواجهة كل ذلك .. و اعترتها حمي شديدة كادت أن تودي بحياتها .. استمرت لشهر كامل تصارع الموت ..
، و حين بدأت في استعادة صحتها ، لم يستطع أحد من أهلها أن يفتح معها موضوع ياسر مرة اّخري .. و حاولت أنا أن اشجعها أن تذهب مرة اّخري إلي الجامعة حتي لا تخسر كل شيء ..
، فعادت ندي إلي ثورتها و قوتها التي اعتدت أن اّراها بها فاخرجت كل هداياه ..و مزقتهم ..وفي تلك الأغراض وجدت أنا قلادة مكتوب عليها -سارة- فسألتها عنها .. فقالت لي تلك أمانة سأردها غداً .. فقلت لها لمن سترديها لا تقولي لياسر ..فثارت بمجرد أن سمعت أسم ياسر و قالت لي بل ليوسف ..
و قالت لي تدي يومها ..
” الأصعب من الفقد .. أن تضطر أن تعيش عمرك بأكمله خائفاُ من التورط بأحدهم مرة اّخري .. أن ترادف كلمة الحُب معني الخذلان في قاموسك طيلة حياتك ”
فقالت و هي تنظر للسماء .. ” ابتليت قلبي بإعاقة ، عسي الله بما بليتني به يُبليك .. “
و في اليوم التالي في الجامعة انتظرتني ندي أمام بوابة الكلية الرئيسية ..
فكانت تنظر إلي الأرض بخجل و كأنه كُتب عليها ، أن تدفع ثمن خطايا ياسر جميعها ..
و بمجرد أن دلفنا للجامعة ، انتهزت ندي فرصة أن يوسف يقف بمفرده ..
فردت له القلادة و قالت له أن سارة تريد أن تنهي ما بينهم و ترد لك هديتك لها ..
فنظر يوسف للقلادة بتأمل و غضب ، ثم سأل ندي من أين حصلت عليهـا .. فأخبرته أن سارة أعطتها لياسر ليردها لك ..
.. ففي باديء الأمر أعتقدنا أن يوسف غاضباً لأن سارة قررت أن تتركه ,و لكنه عندما بدأ بالصراخ .. وبالسب علي ياسر أيها الوغد الجبان .. فهمنا أن تلك القلادة كانت مُهداة من سارة إلي ياسر .. و ليس كما كذب علي ندي !
و بمجرد أن دلف ياسر إلي الكلية ، وقع شجار كبير بينه و بين يوسف .. و لكن ياسر ضربه ضرباُ مُبرحاً .. و لم ينتهي الشجار غير بتدخل الطلبة و بعض أفراد الأمن ..وظل يوسف يتوعده بشدة ..
، أما أنا و ندي كنا نتابع ما يحدث مثلنا مثل أي شخص ..
و لكن – ندي – كانت تحب بقلب أم ، فمهما فعل ياسر في حقها تظل تخشي عليه من شوك ورد يمس أصبعه .. فكان مثل الشوكة العالقة في حلقها .. فلا هي تبتلعه و ترتاح .. و لا يخرج هو ليريحها .. فدائماً مشكلاته تتعقبها كالذنب الذي لا يُفغر لصاحبة ..
، أتسمع عن مقولة من الحب ما قتل .. تلك المقولة خُلقت لندي !
فقاطعها أحمد و هو يشهق و يقول ” لا تقولي لي أبداً أن ما فهمته صحيح ”
أكملت نادين بعينين امتزجا بلون الدماء و أدمع لا يوقف مجراها شيء فتزداد صخب علي وجنتيها .. ” لقد تبعت ندي ياسر ذلك اليوم لخارج الجامعة ، فكانت تخشي عليه جداً من يوسف الذي سبقه للخارج .. و بالفعل بمُجرد أن راّه هجم عليه بدراجته النارية
و في لحظة مريرة مَرت كوميض البرق اندفعت ندي و دفعت ياسر بعيداً عن تلك الدراجة النارية و اصطدمت هي بكامل جسدها بها .. و من شدة الاصطدام طار جسدها الضئيل إلي الرصيف الاّخر ..
و كان أحمد يبكي كطفل صغير و هو يسمعها ، كأنه يعرف ندي معرفة عُمر ..
فقالت نادين و هي تواسيه ..
لن انسي نظرة ياسر لندي و هي مُلقاه علي الأرض غارقة في دمائها ..فكانت عينيه مفتوحة علي مصراعيها و مع ذلك لا تستوعب ما تراه .. فكأن حياة تلك الفتاة المسكينة و عمرها هو الشيء الوحيد الذي كان سيجعل ياسر يفيق مما هو فيه..
فاحتضن ياسر ندي و ضمها إلي صدره بعدما تدافع الناس حولها فمنهم من حاول إيقاف يوسف و منهم من طلب الاسعاف ..فساد الصمت لدقيقة ثم صرخ ياسر بصوت متقطع و أعين تحتلها الدموع و قلب تنزف منه دماء ندي ..
ياسر: متخـا .. متخافيش يا ندي .. أنا معاكي
أما ندي فكانت تتصارع بأنفاسها لتقول له جملتها الأخيرة ..
، أنا أديتك عُمري حافظلي عليه يا ياسر .. هتبقي تزورني و تدعيلي مش كده ؟؟ انا بخاف من الضلمة أوي و مش بحب أبقي لوحدي ..
، ثم انقطعت أنفاس ندي ووقف ذلك القلب ليرتاح و لكن تلك المرة للأبد ..فرحلت روحها ليحل برحيلها صمت و اّسي سيطر علي المكان كله ..
، و لكن صراخ ياسر قطع حاجز الصمت ، فكان صوته يزلزل اّرجاء المكان ..فكان يصرخ و يقول ..
” ندي .. ندي ردي عليا ..
فحاول الناس أن يبعدوا ياسر عنها إشفاقاً عليه ..
ولكنه صرخ بهم ..
هي عايشة أنتم مش فاهمين حاجة هي عاوزاني ابقي كويس بس .. قومي يا ندي فهميهم و قوليلهم أنك عايشة .. أصل هي زعلانة مني أنا هفهكم أنا زعلتها كتير فهي بتردهالي بس .. انتي مش قولتيلي انك مش هتسبيني مهما حصل … مهما حصل يا ندي صح ؟؟ .. أنتي هتمشي زيهم يا ندي .. كلهم فاتوني لوحدي .. انا لوحدي يا ندي .. طب قومي و انا هصلي لا قومي و هصلي و هقرا قراّن و مش هزعلك تاني .. أنا و الله أول مرة أكون مش بكدب عليكي .. طب لما أقعد في الكافتريا مش هلاقيكي خلاص داخلة و في إيدك فطار ليا .. يعني لما أمشي مش هتيجي تقفي قدامي و تشدي السجاير و تضحكي .. لا يا ندي قومي متعمليش زيهم .. أنتي مش زيهم .. متمشيش زي أبويا .. أنا هقعد معاكي لحد ما تصحي و نروح سوا بيتكم عشان نعمل فرحنا يا ندي ..
فظل ياسر محتضن ندي لاكثر من نصف ساعة في منتصف الطريق .. حتي استطاع المارة بصعوبة انتزاع جسدها من أحضانه .. فمنهم من قال له .. ” حرام عليك أنت تُعذبها بأفعالك تلك ” .. و اّخر يقول له ” إكرام الميت دفنه ” .. و كان يصرخ بهم كأنه فقد عقله .. و بالكاد استطاعوا تخليص جسدها من يديه لتحملها الاسعاف .. و ظل لأكثر من شهر يجلس في الكلية في نفس الاماكن و يتحدث كأنه يري ندي وظل هكذا لفترة طويلة ذاق بها مرارة الفقد .. و لكنه عندما أدرك ان ذلك الفقد لن يعود يوماً ..
قام بتنفيذ وصيتها ..فظل يتردد علي قبرها كل ليلة لأنها كانت تكره أن تقبع في الظلام و تكره الوحدة دائماً ..
و لم أكن أريد أن أقص لك تلك القصة مُنذ البداية ، فلم أرد أن أشعل الوسط بينكم أكثر من ذي قبل خاصة أن ياسر الاّن هداه الله .. و قد عاني بما فيه الكفاية طيلة الفترة الماضية .. ولكني اقسم لك بأني لا أعلم حقاً ماذا يقصد أخاك – بكعبة الكافر – تلك ..
،و بعد ذلك شعر أحمد بأن لا مفر من مواجهة ياسر فهرول إليه باكياُ و احتضنه و اخبره بأنه كان يتتبعه لفترة ليطمئن عليه خاصة بعد أن راّه يتكلم حول شيء غامض يدعي – كعبة الكافر – و يتصرف بعض التصرفات الغامضة ..و قد عرف ما جري لندي .. و بمجرد أن ذكر أحمد أسم ندي انهار ياسر بين أحضان أخيه .. و بعد أن هدأ قليلاً قال ياسر ” لو أخبرتني مُنذ البداية لكنت أخبرتك بنفسي عن كعبة الكافر ..ثم قال لأحمد اتبعني و سوف تري بنفسك كعبة الكافر ..”
فظل أحمد يتبعه في تلك الممرات المظلمة ، الضيقة و المتشابهة و لكن تلك المرة أستطاع أن يصل إلي نهاية ذلك المكان .. فوجد نفسه بداخل المقابر ..
فقال له ياسر .. الورق الذي كنت تجده منقوشاً به رسم لمعبد لم يكن سوي رسم لقبر ندي لأذكر نفسي بما حدث دائما .. أما الدفتر الذي وجدته و منقوش عليه كعبة الكافر فذلك أدون به كل شيء يخص ندي أبيات شعر ، صور لدمائها التي نشرتها الجرائد اّنذاك .. و القميص الملوث بالدماء هو ذاته الذي كنت ارتديه وأنا أحتضنها لأول و اّخر مرة ..
أما عندما سمعتني أقول ” تلك الصلاة محرمة عليّ ” .. فكنت أتمني أن أصلي معها و لو لاّخر مرة و لكن أنت تعلم بالطبع أني لا أستطيع أن أصلي في المقابر ..
فانا اّتي إلي هنا كل مساء لأتحدث معها و أقص لها ما حدث بيومي و أطمئنها أني علي وعدي لها بالهداية لحين أن نلتقي .. و أوقات أغني لها .. فتلك الصور التي رأيتها علي هاتفي كانت صوري بجانب قبرها ، فأشعل لها بعض الشموع فأنا لا أريد أن تقبع بمكان مظلم .. أما ذلك الرجل المجذوب فهو ” عم صاوري ” حارس تلك المقابر رجل مسن لديه اعتقاد مثل الكثير أن المقابر في الليل تكون ملك للجان و من يقترب منها سيتأذي ..
ثم اصطحب أحمد إلي أحد القبور .. و قال أما كعبة الكافر فهي _ ندي _
، تلك التي كانت قبلتي التي اتجهت إليها عاصياً و عدت منها تائباُ ..
فنظر أحمد إلي القبر فوجد أمامه قبر تحيط به الكثير من الورود ، منقوشاُ عليه عبارة ..
” كـــوني كعبـة لحــــد كَــافر ، يوم ما اّمـــن بيكـــي تــاب ”
، ثم قال ياسر مُتحدثاً إلي ندي .. هذا أخي يا ندي وعدتك أن أعرفك ِ عليه و أخطبك في حضرته .. ثم أخرج من بنطاله محبساً صغيراً ووضعه فوق قبرها ..
و بدأ يشدو و يقول .. و لكـــنني لما وجدتك راحــلاً بكيت دماُ حتي بللت به الثري
مسحت بأطراف البنان أصابعـــي فصار خضابا في اليدين كما تــري … !
تمت بحمد الله ..