كبير العيلة
الحلقة العشرون
بقلمي/ احكي ياشهرزاد(منى لطفي)
دخل ليث الى غرفتهما ليبدل ثيابه, أغلق الباب خلفه وتوجه الى الأريكة المقابلة للفراش حيث ينام منذ أن استيقظ صباح تلك الليلة البعيدة ليرى عينيها تلمعان ببريق حقد أسود مكيلة له الاتهامات من أنه قد أجبرها على ما لا تريده, لتحتل البرودة والصقيع سائر أطرافه ولم يجابه انفجارها الصارخ الا بكل برودة ثلجية مخبرا إياها أن تنعم بفراشها وحدها فهو لن يكرر خطأ الليلة السابقة!, مر على تلك الليلة أكثر من اسبوعين يهلك نفسه في العمل نهارا وما أن يأتي المساء حتى يذهب للسهر خارجا في ذلك المقهى الذي تديره تلك السيدة المتصابية ” هانم” وابنتها الغازية… وداد!!..
جلس فيوق الأريكة خالعا نعليه ثم أسند ظهره الى الخلف مغمضا عينيه لترتسم ابتسامة ساخرة على فمه الشهواني, فهو يعلم أنه لا يزال أمامه ليلا طويلا مؤرقا الى أن تشرق الشمس, ولولا احترامه لوالده ولا يريد إثارة الأقاويل عن علاقته بسلسبيل لم يكن ليرجع الى هذا المكان العابق بأنفاسها والذي يحرمه لذة الراحة!….
تنفس عميقا وهو يهمس باسمها بينه وبين نفسه:آآآآه يا سلسبيل, لقد سرقت القلب والعقل معا!, لا يعلم كيف تغلغلت أسفل جلده وداخل مسامه ليستنشق حبها الذي أصبح هوائه بتلك الطريقة, قبل زواجه بها كان قادرا على الصمود أمامها واخفاء ما يعتمل من عشق مجنون مُحال بالنسبة له, ولكن ما إن ذاق حلاوة قربها واختلطت أنفاسه بأنفاسها حتى أصبح البعد عنها أشبه بالموت حيًّا!, لقد تضاءلت أمامها سائر النساء الأخريات, لم تعد تثيره أية قامة نسائية مهما كانت صاحبتها هيفاء بل تملك كل مقاومات الجمال, واليوم أقرب مثال على هذا!, هو يعلم بإعجاب وداد الغازية به, هو ليس بأعمى.. هو يعلم جيدا كيف تنظر اليه بشهوة حارقة وعلى يقين أنه ما إن يشير إليها بإصبعه الصغير حتى تأتي مهرولة إليه لتلقي بنفسها أسفل قدميه وعن طيب خاطر منها, ولكنه لا يريد سوى واحدة فقط.. أنثى بكل ما في الكلمة من معنى.. واحدة عرف معها معنى أن يكون حيًّا.. وليس مجرد أن يحيا!, أنثى رفعته في ليلة واحدة وحيدة الى أعلى السماء ولكن.. لتتركه يهبط وبسرعة الصاروخ في الصباح الى أسفل الأرض وبقوة مدوية كادت تكسره!, ولكنه لم يكن ليُكسر حتى لو كانت روحه معلقة بروحها!, فهو الليث… ليث الخولي, وسيكون ملعونا لو ترك أيّما إمرأة تسيطر عليه.. ولكن المضحك المبكي انها ليست أية إمرأة انها.. سلسبيل.. سلسبيله هو.. نبعه الراقي العذب الصافي.. تلك التي انتظرها سنوات عمره كله, التي خطفت قلبه منذ أن فتحت عينيها وكانت لا تزال رضيعه وهو يراها محمولة على يدي جدته تقربها منه باسمة وهي تقول انظر اليها ليث.. انظر الى عروس عائلة الخولي… ليعلن بداخله بسنوات عمره العشر أنها ليست بعروس عائلة الخولي.. بل عروسه هو!!..
كانت تكبر أمامه يوما بعد يوم ليكبر حبها في قلبه, وما ظنه أضغاث طفولة أصبحت الحقيقة الوحيدة الواضحة في حياته!, كان يعد الأيام حتى يستطيع تكليل حبه لها بالزواج, ليصبح من حقه التعبير لها بكل طريقة ممكنة وغير ممكنة عما يكنه لها في قلبه من عشق سرمدي مجنون!, يريد إخبارها أنه أبدا ليس بقاس عليها ولكنه يعتمد هذه القسوة في التعامل معها لأن البديل أن يأخذها بين أحضانه فلا يفلتها أبدا, كان يتحكم بصعوبة شديدة في وحش حبه لها والذي كان يهدد بالإفلات من سيطرته عليه, فكان يضغط وبقسوة على نفسه ما إن يرى عينيها البندقيتين تطالعانه بذلك القلق والريبة ولكن هناك في أعماق عينيها رآها.. رآى تلك النظرة المتسائلة المستفسرة, نعم هي كانت تشعر أن هناك شيء بينهما, لم تكن تخافه بالمعنى المفهوم, فمن يهاب إنسانا يبتعد عنه تماما, ولكنها لم تكن تبتعد إلا لتعود ثانية.. تماما كما الفراشة تخاف من الضوء ولكنها تحوم حوله, وقارب صبره على النفاذ ولكنه كان يمني نفسه بقرب اللقاء.. فهاهي عروس أحلامه قد شارفت على السادسة عشر, فلينتظر قليلا.. قليلا بعد.. قبل أن يصرح لوالده بخطبتها له.. وعلى النقيض منه كان راضي.. كان شقيقه الذي يصغره بخمسة أعوام من يتعجل الزواج, كان كثيرا ما يلح على والدته أن تخطب له فهو يرغب بالزواج.. ولكنها كانت ترفض وبشدة فكيف للصغير أن يتزوج قبل شقيقه الأكبر؟!, وهو كان يشك بأن أخيه الأصغر يريد واحدة بعينها ولهذا كان قلة صبره, وهو خير من يعلم ما الذي يفعله الشوق بالوجدان, فأشفق على شقيقه بأن يعاني مما يكابده هو, ليكون هو من يقنع أمه أن تلبي رغبته وهو من تكلم مع والده والذي وافق بشرط واحد.. أنه لن تتم خطوبة راضي رسميا الا بعد أن يخطب هو..
كان وقتها على وشك السفر لمتابعة بعض الأعمال العالقة في القاهرة, فوافق على شرط والده, فهو الآخر قد استبد به الشوق ولم يعد يطيق صبرا على بعاد حبيبته عنه, وسافر دون أن يدري من التي سلبت قلب شقيقه فعندما سأله لم يرد أخباره وقال له أنه لا يريد ذكر اسمها قبل ان تعلن موافقتها عليه فقد يكون حبه لها من طرف واحد وقتها هو لا يريده أن ينظر اليها بأي منظار قد يسيء إليها.. فعلم ليث أنها لا بد من العائلة وهذا أمر ليس بغريب فمن المعروف أن بنات عائلة الخولي لا يتزوجون إلا من أبناء العائلة, وسافر وغاب أكثر من شهر علم خلالها أن أخاه قد خطب ولكن ليس بصورة رسميه فقد اكتفى والده ووالد العروس بقراءة الفاتحة لحين عودته هو وتنفيذ نصيبه من الاتفاق مع والده… الزواج!, ومن الغرابة أنه لم يهتم بالسؤال عن العروس!, فقد كان شاردا بفرح وتِيه في قرب حصوله هو على حلم حياته, وعاد ليث.. ليفاجأ براضي يستقبله بالأحضان, وبعد مباركته لأخيه سأله بابتسامة عمن تكون العروس تلك التي سلبت قلبه وعقله ليخبره والفرحة تتراقص بين مقليته أنها… سلسبيل!!, وقتها قطب وكأنه لم يسمع وتحولت الابتسامة الى ابتسامة مرتابة وهو يسأل: من سلسبيل؟, ليجيبه راضي بضحكة عالية… ابنة عمنا عثمان!, وقتها شعر أن الهواء قد توقف ولم يعد يعبث بأوراق الأشجار حوله, بل شعر بالاختناق التام.. ليشحب وجهه شحوبا يحاكي شحوب الموتى, ولكن كل ذلك لم ينتبه له أخيه العاشق الذي هتف له بحبه لها.. قائلا أنه لم يصدق عندما أعلن عمه موافقته على طلبه.. وأنه لن يستطيع الصبر لاتمام زواجه بها.. ولم يكتف بغرز السكين وبعمق داخل قلبه بل أنه قد حركه ليلويه أكثر وهو يسأله بالحاح أن يخطب سريعا ليستطيع هو الحصول على سلسبيله!..
سلسبيل منْ؟, أيعقل أن تنتمي سلسبيل لغيره؟, لو لم يكن أخيه شقيقه إبن أمه وأبيه الذي يجري في عروقه ذات الدم أقسم لكان قد دفنه في مكانه حيًّا, ولكنه.. إبنه وليس شقيقه فقط!, كان دائما ما يشعر نحوه بغريزة الحماية… ولأنه الأكبر.. الأقوى…والأقدر.. كان لا بد له من الابتعاد بل وأن يجتث قلبه من صدره ويدفنه.. فهي قد أصبحت محرمة عليه.. وترك لأمه مهمة اختيار عروسه… فلم يعد يفرق معه شيئا, كلما عرضت عليه واحدة من فتيات العائلة كان يقابلها مهمهما بأنه يرضى باختيارها, ليتزوجا هو وأخيه في ليلة واحدة.. لمح فيها حلمه المستحيل يزف لغيره ليصبح لأخيه هو.. ويومها أعلن وفاة قلبه!
وغلف نفسه بقشرة فولاذية صلبة, أصبح انسان باردا خال من أي نوع من أنواع المشاعر الإنسانية, فإن كان قبلا باردا غُلفت برودته تلك الآن بالصقيع, وإن كان سابقا جامدا أصبح الآن جلمودا كالصخر!, وتتكرر زيجاته ثلاث مرات… وكل مرة يمنى بالفشل, ليس عن عيب بهن فهو يعلم تماما أين يكمن الخطأ.. إنه هو.. هو من كان يبحث عن ينبوعه الصافي بين من اقترن بهن… وبعد فشله الثالث أعلنها بكل وضوح.. هو لن يتزوج ثانية.. ويكفي ابناء راضي يحملون إسم العائلة… لن ينسى أبدا لحظة حمل شبل بين يديه وراضي يخبره أنه سيسميه شبل كما اقترح عليه!, كان عدنان الابن الأكبر ولكنه لم يحمل الاسم الذي كان يريد لابنه هو منها.. أن يسميه به!..
ومرت الأيام وكان يراها أمامه ويرى ذعرها وريبتها في عينيها, كان يتألم من داخله, ألا تعلم أنه في سبيلها على أتم الإستعداد لأن يفني روحه في سبيل ابتسامة تتألق في الشوكولاتة الذائبة لعينيها؟!, وأتى خبر مقتل شقيقه الأصغر بل ووحيده ليشعر بإحساس اليُتم الأخوي!, وليشفي غليله بقتل من تسبب في حرمانه وعائلته من شقيقه الوحيد وما إن بدأت ثورة غضبه تهدأ لأخذه بثأر أخيه حتى تتزلزل أركان حياته جميعها بأمر والده له بـ.. الزواج من سلسبيل!, لينكأ جراحه التي حسبها قد جفت ليكتشف أنها أنما قد غلفت بقشرة ظاهرية فقط.. وأنها لا تزال تنزف داخله, رفض.. وكيف لا يرفض وقد كانت لأخيه قبله, لم يكن هو أول من علمها أبجديات العشق, لم يكن هو أول رجل تنظر إليه بعينيها الناعستين, لم يكن أول من تلفظ اسمه صباحا بصوتها ذو البحّة المثيرة, لم يكن أول من تتغنج عليه وتتعلم على يديه فنون غنج الأنثى لزوجها العاشق!, ولكن لم يرحمه أبوه ليهدده بين أن يتزوجها هو أو… غيره!, ليشعر وقتها بنيران تشب في صدره تهدد بحرق الأخضر واليابس, بل بحرق كل من تسول له نفسه بالتفكير مجرد التفكير فيها كزوجة متاحة!, ويقبل.. يوافق على تنفيذ ما أمره به أبوه, يتنازعه في ذلك إحساسان.. أحدهما عدم التصديق أنه سيملك حلمه أخيرا والآخر.. الخوف مما هو آت!, يكاد يقهقه ساخرا.. هو ليث الخولي من تهتز له الشوارب وترجف له أبدان أعتى الرجال.. يخاف من أنثى صغيرة رقيقة.. ولكنها ليست أية أنثى إنها…. سلسبيل!.
وكان يوم الزفاف.. والذي فاجأته عروسه فيه بارتدائها الأسود معلنة أن زواجهما باطلا وأنها لن تكون سوى امرأة اخيه حتى وإن مات!, لقد استلت الخنجر من جرحه وأعادت غمده به عدة مرات بعباراتها التي قذفته بها كطلقات الرصاص المسمومة تلك, وابتعد.. ولكن لم يستطع.. ليعذب نفسه بقربها عندما ذاق رحيق شفتيها لأول مرة.. وقرر أن يجعلها تعتاد قربه منها.. فكان قراره الصارم أن تشاركه الفراش وأن كان كل منهما ينام موليا ظهره للآخر ولكن يكفيه أنه ينام في غرفة عبقة برائحة أنفاسها, ليحدث بعدئذ ذلك الإعصار الذي قلب كيانه كله رأسا على عقب.. ليمتلك حلمه بالفعل بين يديه شبه متوسلا إليها أن تخبره بأنه هو…. زوجها!, لم يستطع إمتلاكها قبل أن تقولها, شعر أنه كما لو كان سيغتصب حقا ليس له إن لم تكن تلفظت بها, ولكنها قالتها.. ليمتلكها!….
حرك رأسها يمينا ويسارا عدة مرات محاولا نفض هذه الذكريات الأليمة التي أبت إلّا أن تهاجمه الليلة, همس بينه وبين نفسه بألم وتوق شديد وهو يتطلع الى تلك الراقدة فوق الفراش غير واعية لمن يتلظى في سبيل نظرة واحده من بندقيتي عينيها, همس بكل حبه وشوقه وألمه.. إلى متى سلسبيل إلى متى؟, أما لهذا العذاب من آخر؟!, لم يستطع فرض نفسه عليها بعد هذا الانهيار الذي قابلته به صبيحة ليلتهما سوية, فوجئ بما كالته له من اتهامات وعبارات مسمومة كان كمن أُلقي فوقه حجرا ضخما.. كان يظن أنها ستتأكد بعد هذه الليلة بمدى حبه لها, هو لم يخبرها بالقول ولكن ارتجافة جسده بين ذراعيها, عيناه المستجديتان, شفتاه التائقتان, لمسات يديه المشتاقة المجنونة, جسده كله بسائر أطرافه وشت به وبعشقه اللا متناهي لها, دقات قلبه الذي أوشك على التوقف من شدة الدماء التي اندفعت تُضخ في عروقه عندما شعر باستجابتها له وللمساته الحميمية, استسلامها بعد مقاومتها الشرسة, هدوئها بعد أن همس لها بكلمات رقيقة لتبعد الذعر عنها, لكنها.. لم تشعر!, لم تدع لنفسها الفرصة لتعلم وتستشعر بالفعل مدى حبه وتوقه لها, تبًّا!!.. كاد يصرخ بها وهو يزيح عمامته من فوق رأسه لتظهر خصلات شعره القصيرة السوداء كجناح غراب, ليمرر فيها أصابعه بيأس وهو يحاول باستماتة أن يبعد عيناه الخائنتين اللتان ترجوانه افلاتهما لتتلصص على سارقة النوم من بين أجفانهما, شتم في سره هذه الغانية .. وداد!, انها هي بكلماتها وحركاتها التي أفصحت بها عن رغبتها به وكيف أنها تموت لتكون له فقط.. مصرحة بذلك في كلمات مغناجة بصوت أبح مثير وهي تميل عليه بينما تنفث أنفاسه دخان النرجيلة عاليا غير عابيء بها أو بكلماتها, لتغرق عينيها في عينيه وهي تقول له أنها تريد أن ترقص له وحده!, وأنه لو أراد فستخلي المقهى من الجميع في التو واللحظة.. فلا يهمها سواه هو!, ولكن.ز كانت وكأنها تكلم حجرا أصم.. لم يطرف له جفن, وبدلا من ذلك تبدلت صورتها ليرى عينان بندقيتان تطالعه بخوف, ورجفة شفاه تسلب لبه, ليشيح بعينيه بعيدا عن تلك الـ.. وداد زافرا لهواء النرجيلة الى البعيد لتمسك بمبسم النرجيلة وبكل ثقة وغنج تجذبه تجاهها وهى تهمس له بأن يدع هواءه يخرج في وجهها فلا أحب إليها من أن تتنفس أنفاسه حتى وان كانت.. دخان نرجيلة!, لا ينكر أنه قد استغرب كلماتها الجريئة حد الوقاحة وتحدق فيها عيناه بدهشة لأقل من ثوان لتسود نظرة غامضة سوداء مقلتي عيناه بعد ذلك بينما تكمل هي إغوائها له بأن تستنشق نفسا من مبسم نرجيلته بدون أن تمسح موضع شفتاه ثم تمدها اليه ثانية وهي تقول بصوت غاوي مثير أنها لم يسبق لها وأن تذوقت نرجيلة في مثل حلاوة طعم هذه !!, أي رجل مكانه كان ليقبل بما هو معروض عليه, ولكن ليس هو .. ليس ليث الخولي, ليس ومن تثيره لم تكن سوى إمرأة واحدة.. تنام أمامه قريرة العين في فراشها غافلة عمن يكتوى بنار الشوق كل ليلة لاعنا نفسه أنه نالها ذات ليلة!, فهو لم يكن قد ذاق حلاوة قربها قبلا.. ولكن الآن وقد عرف الجنة بين ذراعيها فهو يشعر بالخواء التام بل والعذاب الحارق في بعادها, ولكنها دائما هكذا سلسبيل.. كانت أبدا كالشمس الدافئة في يوم شتوي قارص البرودة.. تشع بحرارتها وما إن تبدأ بنشر دفئها حتى تغيب تاركة ليلا أشد برودة وقسوة, هي كنسمة صيف طرية في نهار مشمس حار ولكنها ما ان تعبر لتلطف الجو حتى سرعان ما تختفي تاركة قيظ من نار وراءها, دائما كان يشعر بهذا.. ولم يختلف شيء الآن.. سوى أنه بعد أن ذاق حلاوتها ونعومتها لا يعلم كيف له أن يتابع حياته محروما من ذلك النعيم المحلل له… المحرم عليه!!..
وقف ليخلع ثوبه وصديريته القماشية قبل أن يتوجه الى الحمام ليضع نفسه تحت الدش لينهمر الماء البارد فوقه لعله يطفأ قليلا من نيران شوقه المستعرة, ولم يعلم.. لم يعلم أن فاتنته لم تنم.. بل كانت تخطط للنيل منه.. لتعاقبه على تلك الوداد.. لم تهتم بسؤال نفسها لما ذلك الحريق الذي اشتعل في جوفها والذي سلبتها الراحة طوال السويعات السابقة ما ان أخبرتها وردة بذهابه الى مقهى تلك الساقطة, لم ترد مواجهة نفسها والاعتراف بما هو واضح لكل من يملك عينين, ما يهمها هو أن ليث قد اقترن بها بإرادته ولم يرفض.. إذن فكما أنها قد حُكم عليها أن تتابع حياتها معه هو أيضا من غير المسموح له بالتفكير في غير تلك الحياة.. فحياته معها هي وحدها!!..
خرج من الحمام كان جذعه العلوي عار لا يرتدي سوى سروالا قطنيا وكان يلف منشفة صغيرة حول عنقه يجفف شعره بها عندما سمع أنينا صغيرا, ليرفع رأسه سريعا فتقع عيناه على مشهد سلب أنفاسه وجعل حلقه جافا, كانت سلسبيله ترقد في وسط الفراش تتلوى وقد انحسر ثوب نومها عن ساقيها الى أعلى فخذيها, اقترب بضعة خطوات مترددة من الفراش, لتباغته للمرة الثانية هذه الليلة بجلوسها فوق الفراش فينحسر الغطاء عن أعلى ثوبها لتظهر كتفين كالمرمر ببشرة ذهبية وفي نعومة الحرير, بينما شعرها الذي يتحرق شوقا لدفن وجهه فيه يتطاير لينسدل مفترشا السرير حولها, رفعت يدا صغيرة تقول بينما تتابع اقترابه المتعثر منها من بين أهدابها الشبه مسدلة:
– ليث.. الحجني يا ولد عمي..
ليقفز قلبه هلعا عليها ويتقدم منها في خطوات ملهوفة ويميل عليها هاتفا بقلق واضح:
– مالك يا سلسبيل؟, فيه حاجة بتوجعك؟!..
أطلقت تأوها ضعيفا كان كفيلا بزعزعة البقية الباقية من تماسك ليث, ونظرت اليه بعينيها الناعستين اللتين يتوق للغرق في بحورهما هامسة بصوت يستجلب الشفقة فما بالك بقلب عاشق يثخنه الحب:
– راسي يا ولد عمي.. راسي هتنفجر, صداع جامد جوي, ماعرافشي أعمله إييه؟..
لينسى أي مشاعر خاصة به ويهتف وهو يتجه الى الحمام حيث الصيدلية المنزلية الذي يحتفظ فيها بأدوية للطواريء كما الآن:
– حالا هجيبلك جرصين مسكن..
لم يغب الا لحظات عاد بعدها حاملا قرصين من مسكن لالم الرأس وسكب كوبا من الماء من الدورق المجاور للسرير, مد يده ليناولها الدواء عندما تناولته بيد صغيرة ترتعش فلم ينتظر وأسندها من كتفيها قابضا عليهما بذراع قوية ولكن برفق ليساعدها بتناول الدواء, أبعدت الكوب عن ثغرها الوردي وهمست بابتسامة شكر:
– تسلم يا ولد عمي..
كانت هناك قطرة ماء على شفتها السفلى, لتنحدر نزولا على طول عنقها حتى مقدمة صدرها الظاهر من فتحة عنق الثوب الواسعة لتختفي بعد ذلك بين حنايا صدرها وهو يراقب مسارها حيث اختفت ليزدرد ريقه بصعوبة ويجيبها بصوت أجش:
– ولا يهمك يا بت عمي, تلاجيكي عاوزة تنامي ولا حاجة… اني متأكد لمن تنعسي وتجومي الصبح هتوبجي زينة..
لتفاجئه للمرة الثالثة وهي تمسك راحته الضخمة بين يديها الناعمتين لتجبره على الاعتدال في جلسته بجوارها وتقول بينما تعود بظهرها لتستند على الوسائد خلفها فيما تغمض عينيها وهي ترفع يده لتضعها فوق موضع الألم برأسها:
– اهنه يا ولد عمي, الألم اهنه.. واعر جوي يا ليث.. مجدراشي أستحمله!..
وتلقائيا يمسد ليث موضع الألم بينما لسان حاله يهتف بداخله:
– حبك اللي واعر جوي يا بت عمي, وبعادك اللي مجدرش أستحمله..
انتبه لسكونها بين يديه, فحاول سحب يده, لتصعقه هذه المرة بجذبها لراحته لتضعها فوق الوسادة أسفل خدها و… تنام!!
حاول جذب يده ولكنه أشفق عليها, فهي تبدو كالطفل النائم المرتاح, ليبدل من وضعيته فوق الفراش, فيرقد بجانبها مزيحا راحته وقد تأوهت باعتراض واضعا ذراعه أسفل وجنتها لتعود وتبتسم براحة!!..
قرّب جسدها الغض اللين منه وهمس بينه وبين نفسه بينما ينظر الى وجهها المبتسم النائم كالملاك:
– نامي يا جلب ليث.. أي نعم أني مش هيجيني نوم لكن ولا يهمك.. المهم راحتك إنت.. أني عارف انه لمن ياجي الصبح هترجعي سلسبيل الجديمة.. ولو فيَّا حتة عجل اصغير كنت افوتك دلوك لوحديكي.. لكن مين اللي جال اني عاجل في أي حاجة تخصّك؟, هما مش بيجولوا ان العشج جنون؟, وعشجك انتي يا سلسبيل أجن من الجنون!!..
ليسند ذقنه فوق رأسها متنسما رائحة شعرها العنبرية, ويغمض عيناه, وللمفاجأة يغرق هو الآخر في سبات عميق مماثل لما سبقته اليه سلسبيل والتي لم يكن ببالها أبدا أنها ما ان تشعر براحته أسفل وجنتها فإنها ستغوص بالفعل في نوم عميق كما فعلت.. فما بدأته كعقاب صغير له لذهابه لتلك الوداد انتهى بشعورها هي بالراحة التي غمرتها ما ان شعرت بقربه منها لتنام ولأول مرة منذ اسبوعين براحة عميقة واحساس غريب بالأمان يلفها!!..
فتح ليث عيناه ليستغرب باديء الأمر المكان الذي ينام فيه, ثم ينظر بجواره ليطالعه وجهها النائم, كانت لا تزال ترقد فوق ذراعه التي شعر بخدرها, حاول سحبها من أسفل رأسها, لتتمطى كالهرة بجانبه وتدفن رأسها أكثر بين ضلوعه, مد يدا مترددة ليحاول ايقاظها فهو يعلم تماما أنها ما أن تصحو حتى تتهمه بانتهازه فرصة مرضها, وما ان لمست يده كتفها حتى شعر بلسعة شديدة الحرارة تسري في سائر جسده, ناداها بخفوت عدة مرات قبل أن تفتح جفنيها لترمش عدة مرات قبل أن تجيبه بصوت قد خدره النعاس:
– همممم…
مال فوقها وهي لا تزال نائمة على ذراعه لم تستفق كلية بعد ليقول بابتسامة صغيرة:
– صباح الخير, كيفك دلوك؟, اكويّسة؟!..
قطبت في تساؤل فلم تكن بعد قد استيقظت جيدا بعد ليضرب ذاكرتها ألم رأسها المفتعل ليلة أمس.. وكيف اعتنى بألمها ذاك, لتعي أنها الآن تعتبر فعليا راقدة بين ذراعيه وبكل أريحية!..
احمرت وجنتيها خجلا ووضعت راحتيها على صدره العار فهو قد غفا ليلة أمس بدون أن يرتدي ثيابه كاملة بعد أن فاجأته بتعبها, وما أن لمست كفّيها عضلات صدره القوية حتى انتفضت لتسحبهما سريعا وكأنها لمست سلكا كهربائيا عار, فقد انتشرت الحرارة في سائر جسدها لحظة لمسته يداها, ولكنه أبى أن تبتعد ليسرع بالقبض على يديها لتظلا ملامستين لصدره مسببة تقافز سريع لضربات قلبه, مال عليها هامسا:
– مش الاول أطمن عليكي؟!..
أفلت يد من يديها ليرفع راحته ويضعها فوق رأسها موضع الألم السابق وهو يسألها بصوت أجش بينما عيناه تغازلانها بدون هوادة:
– الوجع كان إهنه, حاسة بحاجة دلوك؟.
ابتعلت ريقها ورطبت بطرف لسانها الوردي شفتيها فقد شعرت بجفاف في حلقها وأسدلت عينيها فلم ترى لمعة عيناه المراقبتان لذلك الفم ذو الشفاه الأرجوانية اللتين تثيرانه بشكل غير مسبوق بالنسبة له وهو الذي تزوج ثلاث مرات سابقا ولكن لم يحدث أن أثارته أيا من زوجاته السابقات, أجابت بخفوت:
– الحمد لله, تسلملي يا ولد عمي تعبتك امعايْ..
ليث بصوت مبحوح وهو يقترب أكثر حتى لغى السنتيمترات القليلة التي تبعد بينهما حتى أنه اضطرها لتميل هي الى الخلف تراقبه بنظرات قلقة مترقبة محاولة دفعه الى البعيد ولكن وكأنها تحاول زحزحة جبل شامخ من مكانه:
– تعبك راحة يا بت عمي..
همست بخفوت ولكنها لم تستطع منع أنفاسها أن تضرب وجهه ليتيه في عينيها تماما كما كان يحلم, أن تكون عيناها أول ما يستيقظ عليه كل صباح:
– هجوم أحضر لك الفطور على ما تتسبّح..
همس بأنفاس ساخنة وقد ترك يديها ليحيط خصرها بذراعيه ضاغطا جسدها اللين الطري الى جسده العضلي الذي ما ان لامسته حتى وكأنها قد أشعلت فيه النار, قال بصوت مثخن بمشاعر الشوق القاتل:
– ريحي روحك, أني لمن أنزل هاخد جرجوشتين ع الماشي, المهم انتي تكوني مرتاحة..
لترفع عينيها إليه وهي تطالعه بحيرة, لقد لمست خوفه وقلقه عليها ليلة أمس, بل أنها ولأول مرة منذ وقت طويل تنام ملء جفنيها وقد شعرت بالأمان التام, وكأن مكانها الطبيعي هنا بين ذراعيه, بعدما حدث بينهما المرة السابقة كان شعور بالخجل مختلط بشعور بالذنب لا تدري لما.. هما من دفعاها لتكيل له الاتهامات الباطلة من أنه هو من أجبرها على الاستسلام مخرسة وبقوة هتاف قلبها أنها هي من استسلم وعن طواعية منها, لكن الآن وهي تنظر الى ذلك الفحم المشتعل في عينيه وهي ترى انعكاس صورتها بين مقلتيه ترى أيضا حنانا وحماية وقلقا, تاهت في عيناه بينما في المقابل رآها ليث.. رآى تلك النظرة المتسائلة الحائرة تقبع ي زاوية صغيرة بين بندقيتي عينيها..كانت وكأنها تريد أن تستشف صدق مشاعره, وعقد العزم على أن يثبت لها أنه الآن… ليثها هي!, فيكفيه تلك النظرة الحائرة ليزعزع الباقي منها ولن يتوقف قبل أن تستسلم كاملا له وكليّة, وسيبدأ منذ اللحظة!..
همت بالكلام عندما مال عليها بغتة ليسكتها ملتهما كلماتها بين شفتيه, أخذتها المفاجأة ولم تقاوم في البداية ولكن بعد أن شعرت بيديه وهما تجوسان بين حنايا جسدها حتى حاولت الافلات وان كانت مقاومة ضعيفة قضى عليها ليث في وقتها لتستسلم رافعة ذراعيها بتردد محيطة بعنقه القوي, فيميل بها كلية فوق الفراش لتنبطح على ظهرها بينما يعلوها هو ولا يزال مبحرا بها في لجة عناق قوي يغوص معها في بحر عميق شاطئه ذراعيه.. واحة أمانها..
صوت طرقات على الباب قاطعت تلك اللحظات بينهما, ظنتها سلسبيل في البدء من مخيلتها ولكنها أنصتت قليلا لتعلم أنها دقات فعلية, حاولت التملص من قبضته وهي تزيح شفتيها جانبا هاتفة:
– ليث.. ليث الباب يا ليث..
ليث بشرود وهو تائه فيها بينما تنتقل شفتاه على عنقها مرورا بحلقها لتصل الى عظمة الترقوة بقبلات ملتهبة صغيرة:
– اممممم.. مالَه الباب؟..
حاولت سلسبيل الابتعاد عن مرمى شفتيه وهي تقول برجاء بينما الطرقات مستمرة:
– يا ليث الباب بيطُوجْ!..
ليتوقف عن تقبيلها وهو يطالعها بنظرات زائغة مشتتة ثم تشير له بعينيها تجاه الباب ليسمع الدقات العالية فتكرر كلماتها:
– الباب عيطُوج!..
ثم بدفعة صغيرة أزاحته من فوقها وهرعت الى المرآة لترتب ثيابها وهي تسأل بصوت عال عمن يكون الطارق ليجيبها صوت صغير أنه أنا… شبل وعدنان!, لملمت شعرها الثائر بربطة محكمة , وطالعت نفسها في المرآة لترى شفتيها المنتفختين اللتات تحملان أثر هجوم ليث عليهما, لتتجه الى الباب فتفتحه غافلة عن ذلك القابع فوق الفراش وقد ضرب برأسه في الحائط أعلى السرير وهو يردد بصوت خافت ويأس:
– وانتي الصادجة.. أني اللي هطوج مش الباب!..
وما أن فتحت الباب حتى اندفع الصغير شبل وفي أعقابه عدنان شقيقه مهللين ويتجهان الى ليث الراقد فوق الفراش والذي ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه ما أن وقع ناظريه عليهما, ليقفزا بجواره فوق الفراش بينما يقول شبل بلوم:
– انت وعدتنا هتلعب امعانا, انت نسيت يا بويْ؟!
ليتسمر ليث وسلسبيل مكانهما يتبادلان النظرات هو في مكانه فوق الفراش يتوسط الصغيرين وهي واقفة أمامه, ثم التفت ليث الى شبل ليحتضنه بقوة قائلا وهو يتشمم رائحته الطفولية الذكية:
– لاه.. أني أجدر أنسى وعد وعدته لـ… ولدي!!..
لتترقرق الدموع في عيني سلسبيل, ليست دموع حزن ولكنها وللمفاجأة دموع فرح!, فقد عوض الله صغارها عن أبيهما الراحل بعمهما.. ذلك الأب الحنون والذي شعرا بأبوته, فلم يكن صغيرها ليهتف به مناديا اياه بأبي ان لم يستشعرها حقيقة, فالأطفال يتعاملون بالفطرة فقط, لا يعلمون ما المجاملة ولا يتعاطونها!.., وألقت الى ليث بنظرة فهمها الأخير… فهي تشكره على رعايته لولديها… نظرة امتزجت بها أخرى تدل على إعجاب صرف.. ليعلم ليث أنه قد بدأ باختراق حصون قلبها.. ولن يتوقف قبل أن يدق أسوارها كلية لتعلن الاستسلام التاااااام لقلبه العاشق!!..
***************
يتبع
الحلقة العشرون
بقلمي/ احكي ياشهرزاد(منى لطفي)
دخل ليث الى غرفتهما ليبدل ثيابه, أغلق الباب خلفه وتوجه الى الأريكة المقابلة للفراش حيث ينام منذ أن استيقظ صباح تلك الليلة البعيدة ليرى عينيها تلمعان ببريق حقد أسود مكيلة له الاتهامات من أنه قد أجبرها على ما لا تريده, لتحتل البرودة والصقيع سائر أطرافه ولم يجابه انفجارها الصارخ الا بكل برودة ثلجية مخبرا إياها أن تنعم بفراشها وحدها فهو لن يكرر خطأ الليلة السابقة!, مر على تلك الليلة أكثر من اسبوعين يهلك نفسه في العمل نهارا وما أن يأتي المساء حتى يذهب للسهر خارجا في ذلك المقهى الذي تديره تلك السيدة المتصابية ” هانم” وابنتها الغازية… وداد!!..
جلس فيوق الأريكة خالعا نعليه ثم أسند ظهره الى الخلف مغمضا عينيه لترتسم ابتسامة ساخرة على فمه الشهواني, فهو يعلم أنه لا يزال أمامه ليلا طويلا مؤرقا الى أن تشرق الشمس, ولولا احترامه لوالده ولا يريد إثارة الأقاويل عن علاقته بسلسبيل لم يكن ليرجع الى هذا المكان العابق بأنفاسها والذي يحرمه لذة الراحة!….
تنفس عميقا وهو يهمس باسمها بينه وبين نفسه:آآآآه يا سلسبيل, لقد سرقت القلب والعقل معا!, لا يعلم كيف تغلغلت أسفل جلده وداخل مسامه ليستنشق حبها الذي أصبح هوائه بتلك الطريقة, قبل زواجه بها كان قادرا على الصمود أمامها واخفاء ما يعتمل من عشق مجنون مُحال بالنسبة له, ولكن ما إن ذاق حلاوة قربها واختلطت أنفاسه بأنفاسها حتى أصبح البعد عنها أشبه بالموت حيًّا!, لقد تضاءلت أمامها سائر النساء الأخريات, لم تعد تثيره أية قامة نسائية مهما كانت صاحبتها هيفاء بل تملك كل مقاومات الجمال, واليوم أقرب مثال على هذا!, هو يعلم بإعجاب وداد الغازية به, هو ليس بأعمى.. هو يعلم جيدا كيف تنظر اليه بشهوة حارقة وعلى يقين أنه ما إن يشير إليها بإصبعه الصغير حتى تأتي مهرولة إليه لتلقي بنفسها أسفل قدميه وعن طيب خاطر منها, ولكنه لا يريد سوى واحدة فقط.. أنثى بكل ما في الكلمة من معنى.. واحدة عرف معها معنى أن يكون حيًّا.. وليس مجرد أن يحيا!, أنثى رفعته في ليلة واحدة وحيدة الى أعلى السماء ولكن.. لتتركه يهبط وبسرعة الصاروخ في الصباح الى أسفل الأرض وبقوة مدوية كادت تكسره!, ولكنه لم يكن ليُكسر حتى لو كانت روحه معلقة بروحها!, فهو الليث… ليث الخولي, وسيكون ملعونا لو ترك أيّما إمرأة تسيطر عليه.. ولكن المضحك المبكي انها ليست أية إمرأة انها.. سلسبيل.. سلسبيله هو.. نبعه الراقي العذب الصافي.. تلك التي انتظرها سنوات عمره كله, التي خطفت قلبه منذ أن فتحت عينيها وكانت لا تزال رضيعه وهو يراها محمولة على يدي جدته تقربها منه باسمة وهي تقول انظر اليها ليث.. انظر الى عروس عائلة الخولي… ليعلن بداخله بسنوات عمره العشر أنها ليست بعروس عائلة الخولي.. بل عروسه هو!!..
كانت تكبر أمامه يوما بعد يوم ليكبر حبها في قلبه, وما ظنه أضغاث طفولة أصبحت الحقيقة الوحيدة الواضحة في حياته!, كان يعد الأيام حتى يستطيع تكليل حبه لها بالزواج, ليصبح من حقه التعبير لها بكل طريقة ممكنة وغير ممكنة عما يكنه لها في قلبه من عشق سرمدي مجنون!, يريد إخبارها أنه أبدا ليس بقاس عليها ولكنه يعتمد هذه القسوة في التعامل معها لأن البديل أن يأخذها بين أحضانه فلا يفلتها أبدا, كان يتحكم بصعوبة شديدة في وحش حبه لها والذي كان يهدد بالإفلات من سيطرته عليه, فكان يضغط وبقسوة على نفسه ما إن يرى عينيها البندقيتين تطالعانه بذلك القلق والريبة ولكن هناك في أعماق عينيها رآها.. رآى تلك النظرة المتسائلة المستفسرة, نعم هي كانت تشعر أن هناك شيء بينهما, لم تكن تخافه بالمعنى المفهوم, فمن يهاب إنسانا يبتعد عنه تماما, ولكنها لم تكن تبتعد إلا لتعود ثانية.. تماما كما الفراشة تخاف من الضوء ولكنها تحوم حوله, وقارب صبره على النفاذ ولكنه كان يمني نفسه بقرب اللقاء.. فهاهي عروس أحلامه قد شارفت على السادسة عشر, فلينتظر قليلا.. قليلا بعد.. قبل أن يصرح لوالده بخطبتها له.. وعلى النقيض منه كان راضي.. كان شقيقه الذي يصغره بخمسة أعوام من يتعجل الزواج, كان كثيرا ما يلح على والدته أن تخطب له فهو يرغب بالزواج.. ولكنها كانت ترفض وبشدة فكيف للصغير أن يتزوج قبل شقيقه الأكبر؟!, وهو كان يشك بأن أخيه الأصغر يريد واحدة بعينها ولهذا كان قلة صبره, وهو خير من يعلم ما الذي يفعله الشوق بالوجدان, فأشفق على شقيقه بأن يعاني مما يكابده هو, ليكون هو من يقنع أمه أن تلبي رغبته وهو من تكلم مع والده والذي وافق بشرط واحد.. أنه لن تتم خطوبة راضي رسميا الا بعد أن يخطب هو..
كان وقتها على وشك السفر لمتابعة بعض الأعمال العالقة في القاهرة, فوافق على شرط والده, فهو الآخر قد استبد به الشوق ولم يعد يطيق صبرا على بعاد حبيبته عنه, وسافر دون أن يدري من التي سلبت قلب شقيقه فعندما سأله لم يرد أخباره وقال له أنه لا يريد ذكر اسمها قبل ان تعلن موافقتها عليه فقد يكون حبه لها من طرف واحد وقتها هو لا يريده أن ينظر اليها بأي منظار قد يسيء إليها.. فعلم ليث أنها لا بد من العائلة وهذا أمر ليس بغريب فمن المعروف أن بنات عائلة الخولي لا يتزوجون إلا من أبناء العائلة, وسافر وغاب أكثر من شهر علم خلالها أن أخاه قد خطب ولكن ليس بصورة رسميه فقد اكتفى والده ووالد العروس بقراءة الفاتحة لحين عودته هو وتنفيذ نصيبه من الاتفاق مع والده… الزواج!, ومن الغرابة أنه لم يهتم بالسؤال عن العروس!, فقد كان شاردا بفرح وتِيه في قرب حصوله هو على حلم حياته, وعاد ليث.. ليفاجأ براضي يستقبله بالأحضان, وبعد مباركته لأخيه سأله بابتسامة عمن تكون العروس تلك التي سلبت قلبه وعقله ليخبره والفرحة تتراقص بين مقليته أنها… سلسبيل!!, وقتها قطب وكأنه لم يسمع وتحولت الابتسامة الى ابتسامة مرتابة وهو يسأل: من سلسبيل؟, ليجيبه راضي بضحكة عالية… ابنة عمنا عثمان!, وقتها شعر أن الهواء قد توقف ولم يعد يعبث بأوراق الأشجار حوله, بل شعر بالاختناق التام.. ليشحب وجهه شحوبا يحاكي شحوب الموتى, ولكن كل ذلك لم ينتبه له أخيه العاشق الذي هتف له بحبه لها.. قائلا أنه لم يصدق عندما أعلن عمه موافقته على طلبه.. وأنه لن يستطيع الصبر لاتمام زواجه بها.. ولم يكتف بغرز السكين وبعمق داخل قلبه بل أنه قد حركه ليلويه أكثر وهو يسأله بالحاح أن يخطب سريعا ليستطيع هو الحصول على سلسبيله!..
سلسبيل منْ؟, أيعقل أن تنتمي سلسبيل لغيره؟, لو لم يكن أخيه شقيقه إبن أمه وأبيه الذي يجري في عروقه ذات الدم أقسم لكان قد دفنه في مكانه حيًّا, ولكنه.. إبنه وليس شقيقه فقط!, كان دائما ما يشعر نحوه بغريزة الحماية… ولأنه الأكبر.. الأقوى…والأقدر.. كان لا بد له من الابتعاد بل وأن يجتث قلبه من صدره ويدفنه.. فهي قد أصبحت محرمة عليه.. وترك لأمه مهمة اختيار عروسه… فلم يعد يفرق معه شيئا, كلما عرضت عليه واحدة من فتيات العائلة كان يقابلها مهمهما بأنه يرضى باختيارها, ليتزوجا هو وأخيه في ليلة واحدة.. لمح فيها حلمه المستحيل يزف لغيره ليصبح لأخيه هو.. ويومها أعلن وفاة قلبه!
وغلف نفسه بقشرة فولاذية صلبة, أصبح انسان باردا خال من أي نوع من أنواع المشاعر الإنسانية, فإن كان قبلا باردا غُلفت برودته تلك الآن بالصقيع, وإن كان سابقا جامدا أصبح الآن جلمودا كالصخر!, وتتكرر زيجاته ثلاث مرات… وكل مرة يمنى بالفشل, ليس عن عيب بهن فهو يعلم تماما أين يكمن الخطأ.. إنه هو.. هو من كان يبحث عن ينبوعه الصافي بين من اقترن بهن… وبعد فشله الثالث أعلنها بكل وضوح.. هو لن يتزوج ثانية.. ويكفي ابناء راضي يحملون إسم العائلة… لن ينسى أبدا لحظة حمل شبل بين يديه وراضي يخبره أنه سيسميه شبل كما اقترح عليه!, كان عدنان الابن الأكبر ولكنه لم يحمل الاسم الذي كان يريد لابنه هو منها.. أن يسميه به!..
ومرت الأيام وكان يراها أمامه ويرى ذعرها وريبتها في عينيها, كان يتألم من داخله, ألا تعلم أنه في سبيلها على أتم الإستعداد لأن يفني روحه في سبيل ابتسامة تتألق في الشوكولاتة الذائبة لعينيها؟!, وأتى خبر مقتل شقيقه الأصغر بل ووحيده ليشعر بإحساس اليُتم الأخوي!, وليشفي غليله بقتل من تسبب في حرمانه وعائلته من شقيقه الوحيد وما إن بدأت ثورة غضبه تهدأ لأخذه بثأر أخيه حتى تتزلزل أركان حياته جميعها بأمر والده له بـ.. الزواج من سلسبيل!, لينكأ جراحه التي حسبها قد جفت ليكتشف أنها أنما قد غلفت بقشرة ظاهرية فقط.. وأنها لا تزال تنزف داخله, رفض.. وكيف لا يرفض وقد كانت لأخيه قبله, لم يكن هو أول من علمها أبجديات العشق, لم يكن هو أول رجل تنظر إليه بعينيها الناعستين, لم يكن أول من تلفظ اسمه صباحا بصوتها ذو البحّة المثيرة, لم يكن أول من تتغنج عليه وتتعلم على يديه فنون غنج الأنثى لزوجها العاشق!, ولكن لم يرحمه أبوه ليهدده بين أن يتزوجها هو أو… غيره!, ليشعر وقتها بنيران تشب في صدره تهدد بحرق الأخضر واليابس, بل بحرق كل من تسول له نفسه بالتفكير مجرد التفكير فيها كزوجة متاحة!, ويقبل.. يوافق على تنفيذ ما أمره به أبوه, يتنازعه في ذلك إحساسان.. أحدهما عدم التصديق أنه سيملك حلمه أخيرا والآخر.. الخوف مما هو آت!, يكاد يقهقه ساخرا.. هو ليث الخولي من تهتز له الشوارب وترجف له أبدان أعتى الرجال.. يخاف من أنثى صغيرة رقيقة.. ولكنها ليست أية أنثى إنها…. سلسبيل!.
وكان يوم الزفاف.. والذي فاجأته عروسه فيه بارتدائها الأسود معلنة أن زواجهما باطلا وأنها لن تكون سوى امرأة اخيه حتى وإن مات!, لقد استلت الخنجر من جرحه وأعادت غمده به عدة مرات بعباراتها التي قذفته بها كطلقات الرصاص المسمومة تلك, وابتعد.. ولكن لم يستطع.. ليعذب نفسه بقربها عندما ذاق رحيق شفتيها لأول مرة.. وقرر أن يجعلها تعتاد قربه منها.. فكان قراره الصارم أن تشاركه الفراش وأن كان كل منهما ينام موليا ظهره للآخر ولكن يكفيه أنه ينام في غرفة عبقة برائحة أنفاسها, ليحدث بعدئذ ذلك الإعصار الذي قلب كيانه كله رأسا على عقب.. ليمتلك حلمه بالفعل بين يديه شبه متوسلا إليها أن تخبره بأنه هو…. زوجها!, لم يستطع إمتلاكها قبل أن تقولها, شعر أنه كما لو كان سيغتصب حقا ليس له إن لم تكن تلفظت بها, ولكنها قالتها.. ليمتلكها!….
حرك رأسها يمينا ويسارا عدة مرات محاولا نفض هذه الذكريات الأليمة التي أبت إلّا أن تهاجمه الليلة, همس بينه وبين نفسه بألم وتوق شديد وهو يتطلع الى تلك الراقدة فوق الفراش غير واعية لمن يتلظى في سبيل نظرة واحده من بندقيتي عينيها, همس بكل حبه وشوقه وألمه.. إلى متى سلسبيل إلى متى؟, أما لهذا العذاب من آخر؟!, لم يستطع فرض نفسه عليها بعد هذا الانهيار الذي قابلته به صبيحة ليلتهما سوية, فوجئ بما كالته له من اتهامات وعبارات مسمومة كان كمن أُلقي فوقه حجرا ضخما.. كان يظن أنها ستتأكد بعد هذه الليلة بمدى حبه لها, هو لم يخبرها بالقول ولكن ارتجافة جسده بين ذراعيها, عيناه المستجديتان, شفتاه التائقتان, لمسات يديه المشتاقة المجنونة, جسده كله بسائر أطرافه وشت به وبعشقه اللا متناهي لها, دقات قلبه الذي أوشك على التوقف من شدة الدماء التي اندفعت تُضخ في عروقه عندما شعر باستجابتها له وللمساته الحميمية, استسلامها بعد مقاومتها الشرسة, هدوئها بعد أن همس لها بكلمات رقيقة لتبعد الذعر عنها, لكنها.. لم تشعر!, لم تدع لنفسها الفرصة لتعلم وتستشعر بالفعل مدى حبه وتوقه لها, تبًّا!!.. كاد يصرخ بها وهو يزيح عمامته من فوق رأسه لتظهر خصلات شعره القصيرة السوداء كجناح غراب, ليمرر فيها أصابعه بيأس وهو يحاول باستماتة أن يبعد عيناه الخائنتين اللتان ترجوانه افلاتهما لتتلصص على سارقة النوم من بين أجفانهما, شتم في سره هذه الغانية .. وداد!, انها هي بكلماتها وحركاتها التي أفصحت بها عن رغبتها به وكيف أنها تموت لتكون له فقط.. مصرحة بذلك في كلمات مغناجة بصوت أبح مثير وهي تميل عليه بينما تنفث أنفاسه دخان النرجيلة عاليا غير عابيء بها أو بكلماتها, لتغرق عينيها في عينيه وهي تقول له أنها تريد أن ترقص له وحده!, وأنه لو أراد فستخلي المقهى من الجميع في التو واللحظة.. فلا يهمها سواه هو!, ولكن.ز كانت وكأنها تكلم حجرا أصم.. لم يطرف له جفن, وبدلا من ذلك تبدلت صورتها ليرى عينان بندقيتان تطالعه بخوف, ورجفة شفاه تسلب لبه, ليشيح بعينيه بعيدا عن تلك الـ.. وداد زافرا لهواء النرجيلة الى البعيد لتمسك بمبسم النرجيلة وبكل ثقة وغنج تجذبه تجاهها وهى تهمس له بأن يدع هواءه يخرج في وجهها فلا أحب إليها من أن تتنفس أنفاسه حتى وان كانت.. دخان نرجيلة!, لا ينكر أنه قد استغرب كلماتها الجريئة حد الوقاحة وتحدق فيها عيناه بدهشة لأقل من ثوان لتسود نظرة غامضة سوداء مقلتي عيناه بعد ذلك بينما تكمل هي إغوائها له بأن تستنشق نفسا من مبسم نرجيلته بدون أن تمسح موضع شفتاه ثم تمدها اليه ثانية وهي تقول بصوت غاوي مثير أنها لم يسبق لها وأن تذوقت نرجيلة في مثل حلاوة طعم هذه !!, أي رجل مكانه كان ليقبل بما هو معروض عليه, ولكن ليس هو .. ليس ليث الخولي, ليس ومن تثيره لم تكن سوى إمرأة واحدة.. تنام أمامه قريرة العين في فراشها غافلة عمن يكتوى بنار الشوق كل ليلة لاعنا نفسه أنه نالها ذات ليلة!, فهو لم يكن قد ذاق حلاوة قربها قبلا.. ولكن الآن وقد عرف الجنة بين ذراعيها فهو يشعر بالخواء التام بل والعذاب الحارق في بعادها, ولكنها دائما هكذا سلسبيل.. كانت أبدا كالشمس الدافئة في يوم شتوي قارص البرودة.. تشع بحرارتها وما إن تبدأ بنشر دفئها حتى تغيب تاركة ليلا أشد برودة وقسوة, هي كنسمة صيف طرية في نهار مشمس حار ولكنها ما ان تعبر لتلطف الجو حتى سرعان ما تختفي تاركة قيظ من نار وراءها, دائما كان يشعر بهذا.. ولم يختلف شيء الآن.. سوى أنه بعد أن ذاق حلاوتها ونعومتها لا يعلم كيف له أن يتابع حياته محروما من ذلك النعيم المحلل له… المحرم عليه!!..
وقف ليخلع ثوبه وصديريته القماشية قبل أن يتوجه الى الحمام ليضع نفسه تحت الدش لينهمر الماء البارد فوقه لعله يطفأ قليلا من نيران شوقه المستعرة, ولم يعلم.. لم يعلم أن فاتنته لم تنم.. بل كانت تخطط للنيل منه.. لتعاقبه على تلك الوداد.. لم تهتم بسؤال نفسها لما ذلك الحريق الذي اشتعل في جوفها والذي سلبتها الراحة طوال السويعات السابقة ما ان أخبرتها وردة بذهابه الى مقهى تلك الساقطة, لم ترد مواجهة نفسها والاعتراف بما هو واضح لكل من يملك عينين, ما يهمها هو أن ليث قد اقترن بها بإرادته ولم يرفض.. إذن فكما أنها قد حُكم عليها أن تتابع حياتها معه هو أيضا من غير المسموح له بالتفكير في غير تلك الحياة.. فحياته معها هي وحدها!!..
خرج من الحمام كان جذعه العلوي عار لا يرتدي سوى سروالا قطنيا وكان يلف منشفة صغيرة حول عنقه يجفف شعره بها عندما سمع أنينا صغيرا, ليرفع رأسه سريعا فتقع عيناه على مشهد سلب أنفاسه وجعل حلقه جافا, كانت سلسبيله ترقد في وسط الفراش تتلوى وقد انحسر ثوب نومها عن ساقيها الى أعلى فخذيها, اقترب بضعة خطوات مترددة من الفراش, لتباغته للمرة الثانية هذه الليلة بجلوسها فوق الفراش فينحسر الغطاء عن أعلى ثوبها لتظهر كتفين كالمرمر ببشرة ذهبية وفي نعومة الحرير, بينما شعرها الذي يتحرق شوقا لدفن وجهه فيه يتطاير لينسدل مفترشا السرير حولها, رفعت يدا صغيرة تقول بينما تتابع اقترابه المتعثر منها من بين أهدابها الشبه مسدلة:
– ليث.. الحجني يا ولد عمي..
ليقفز قلبه هلعا عليها ويتقدم منها في خطوات ملهوفة ويميل عليها هاتفا بقلق واضح:
– مالك يا سلسبيل؟, فيه حاجة بتوجعك؟!..
أطلقت تأوها ضعيفا كان كفيلا بزعزعة البقية الباقية من تماسك ليث, ونظرت اليه بعينيها الناعستين اللتين يتوق للغرق في بحورهما هامسة بصوت يستجلب الشفقة فما بالك بقلب عاشق يثخنه الحب:
– راسي يا ولد عمي.. راسي هتنفجر, صداع جامد جوي, ماعرافشي أعمله إييه؟..
لينسى أي مشاعر خاصة به ويهتف وهو يتجه الى الحمام حيث الصيدلية المنزلية الذي يحتفظ فيها بأدوية للطواريء كما الآن:
– حالا هجيبلك جرصين مسكن..
لم يغب الا لحظات عاد بعدها حاملا قرصين من مسكن لالم الرأس وسكب كوبا من الماء من الدورق المجاور للسرير, مد يده ليناولها الدواء عندما تناولته بيد صغيرة ترتعش فلم ينتظر وأسندها من كتفيها قابضا عليهما بذراع قوية ولكن برفق ليساعدها بتناول الدواء, أبعدت الكوب عن ثغرها الوردي وهمست بابتسامة شكر:
– تسلم يا ولد عمي..
كانت هناك قطرة ماء على شفتها السفلى, لتنحدر نزولا على طول عنقها حتى مقدمة صدرها الظاهر من فتحة عنق الثوب الواسعة لتختفي بعد ذلك بين حنايا صدرها وهو يراقب مسارها حيث اختفت ليزدرد ريقه بصعوبة ويجيبها بصوت أجش:
– ولا يهمك يا بت عمي, تلاجيكي عاوزة تنامي ولا حاجة… اني متأكد لمن تنعسي وتجومي الصبح هتوبجي زينة..
لتفاجئه للمرة الثالثة وهي تمسك راحته الضخمة بين يديها الناعمتين لتجبره على الاعتدال في جلسته بجوارها وتقول بينما تعود بظهرها لتستند على الوسائد خلفها فيما تغمض عينيها وهي ترفع يده لتضعها فوق موضع الألم برأسها:
– اهنه يا ولد عمي, الألم اهنه.. واعر جوي يا ليث.. مجدراشي أستحمله!..
وتلقائيا يمسد ليث موضع الألم بينما لسان حاله يهتف بداخله:
– حبك اللي واعر جوي يا بت عمي, وبعادك اللي مجدرش أستحمله..
انتبه لسكونها بين يديه, فحاول سحب يده, لتصعقه هذه المرة بجذبها لراحته لتضعها فوق الوسادة أسفل خدها و… تنام!!
حاول جذب يده ولكنه أشفق عليها, فهي تبدو كالطفل النائم المرتاح, ليبدل من وضعيته فوق الفراش, فيرقد بجانبها مزيحا راحته وقد تأوهت باعتراض واضعا ذراعه أسفل وجنتها لتعود وتبتسم براحة!!..
قرّب جسدها الغض اللين منه وهمس بينه وبين نفسه بينما ينظر الى وجهها المبتسم النائم كالملاك:
– نامي يا جلب ليث.. أي نعم أني مش هيجيني نوم لكن ولا يهمك.. المهم راحتك إنت.. أني عارف انه لمن ياجي الصبح هترجعي سلسبيل الجديمة.. ولو فيَّا حتة عجل اصغير كنت افوتك دلوك لوحديكي.. لكن مين اللي جال اني عاجل في أي حاجة تخصّك؟, هما مش بيجولوا ان العشج جنون؟, وعشجك انتي يا سلسبيل أجن من الجنون!!..
ليسند ذقنه فوق رأسها متنسما رائحة شعرها العنبرية, ويغمض عيناه, وللمفاجأة يغرق هو الآخر في سبات عميق مماثل لما سبقته اليه سلسبيل والتي لم يكن ببالها أبدا أنها ما ان تشعر براحته أسفل وجنتها فإنها ستغوص بالفعل في نوم عميق كما فعلت.. فما بدأته كعقاب صغير له لذهابه لتلك الوداد انتهى بشعورها هي بالراحة التي غمرتها ما ان شعرت بقربه منها لتنام ولأول مرة منذ اسبوعين براحة عميقة واحساس غريب بالأمان يلفها!!..
فتح ليث عيناه ليستغرب باديء الأمر المكان الذي ينام فيه, ثم ينظر بجواره ليطالعه وجهها النائم, كانت لا تزال ترقد فوق ذراعه التي شعر بخدرها, حاول سحبها من أسفل رأسها, لتتمطى كالهرة بجانبه وتدفن رأسها أكثر بين ضلوعه, مد يدا مترددة ليحاول ايقاظها فهو يعلم تماما أنها ما أن تصحو حتى تتهمه بانتهازه فرصة مرضها, وما ان لمست يده كتفها حتى شعر بلسعة شديدة الحرارة تسري في سائر جسده, ناداها بخفوت عدة مرات قبل أن تفتح جفنيها لترمش عدة مرات قبل أن تجيبه بصوت قد خدره النعاس:
– همممم…
مال فوقها وهي لا تزال نائمة على ذراعه لم تستفق كلية بعد ليقول بابتسامة صغيرة:
– صباح الخير, كيفك دلوك؟, اكويّسة؟!..
قطبت في تساؤل فلم تكن بعد قد استيقظت جيدا بعد ليضرب ذاكرتها ألم رأسها المفتعل ليلة أمس.. وكيف اعتنى بألمها ذاك, لتعي أنها الآن تعتبر فعليا راقدة بين ذراعيه وبكل أريحية!..
احمرت وجنتيها خجلا ووضعت راحتيها على صدره العار فهو قد غفا ليلة أمس بدون أن يرتدي ثيابه كاملة بعد أن فاجأته بتعبها, وما أن لمست كفّيها عضلات صدره القوية حتى انتفضت لتسحبهما سريعا وكأنها لمست سلكا كهربائيا عار, فقد انتشرت الحرارة في سائر جسدها لحظة لمسته يداها, ولكنه أبى أن تبتعد ليسرع بالقبض على يديها لتظلا ملامستين لصدره مسببة تقافز سريع لضربات قلبه, مال عليها هامسا:
– مش الاول أطمن عليكي؟!..
أفلت يد من يديها ليرفع راحته ويضعها فوق رأسها موضع الألم السابق وهو يسألها بصوت أجش بينما عيناه تغازلانها بدون هوادة:
– الوجع كان إهنه, حاسة بحاجة دلوك؟.
ابتعلت ريقها ورطبت بطرف لسانها الوردي شفتيها فقد شعرت بجفاف في حلقها وأسدلت عينيها فلم ترى لمعة عيناه المراقبتان لذلك الفم ذو الشفاه الأرجوانية اللتين تثيرانه بشكل غير مسبوق بالنسبة له وهو الذي تزوج ثلاث مرات سابقا ولكن لم يحدث أن أثارته أيا من زوجاته السابقات, أجابت بخفوت:
– الحمد لله, تسلملي يا ولد عمي تعبتك امعايْ..
ليث بصوت مبحوح وهو يقترب أكثر حتى لغى السنتيمترات القليلة التي تبعد بينهما حتى أنه اضطرها لتميل هي الى الخلف تراقبه بنظرات قلقة مترقبة محاولة دفعه الى البعيد ولكن وكأنها تحاول زحزحة جبل شامخ من مكانه:
– تعبك راحة يا بت عمي..
همست بخفوت ولكنها لم تستطع منع أنفاسها أن تضرب وجهه ليتيه في عينيها تماما كما كان يحلم, أن تكون عيناها أول ما يستيقظ عليه كل صباح:
– هجوم أحضر لك الفطور على ما تتسبّح..
همس بأنفاس ساخنة وقد ترك يديها ليحيط خصرها بذراعيه ضاغطا جسدها اللين الطري الى جسده العضلي الذي ما ان لامسته حتى وكأنها قد أشعلت فيه النار, قال بصوت مثخن بمشاعر الشوق القاتل:
– ريحي روحك, أني لمن أنزل هاخد جرجوشتين ع الماشي, المهم انتي تكوني مرتاحة..
لترفع عينيها إليه وهي تطالعه بحيرة, لقد لمست خوفه وقلقه عليها ليلة أمس, بل أنها ولأول مرة منذ وقت طويل تنام ملء جفنيها وقد شعرت بالأمان التام, وكأن مكانها الطبيعي هنا بين ذراعيه, بعدما حدث بينهما المرة السابقة كان شعور بالخجل مختلط بشعور بالذنب لا تدري لما.. هما من دفعاها لتكيل له الاتهامات الباطلة من أنه هو من أجبرها على الاستسلام مخرسة وبقوة هتاف قلبها أنها هي من استسلم وعن طواعية منها, لكن الآن وهي تنظر الى ذلك الفحم المشتعل في عينيه وهي ترى انعكاس صورتها بين مقلتيه ترى أيضا حنانا وحماية وقلقا, تاهت في عيناه بينما في المقابل رآها ليث.. رآى تلك النظرة المتسائلة الحائرة تقبع ي زاوية صغيرة بين بندقيتي عينيها..كانت وكأنها تريد أن تستشف صدق مشاعره, وعقد العزم على أن يثبت لها أنه الآن… ليثها هي!, فيكفيه تلك النظرة الحائرة ليزعزع الباقي منها ولن يتوقف قبل أن تستسلم كاملا له وكليّة, وسيبدأ منذ اللحظة!..
همت بالكلام عندما مال عليها بغتة ليسكتها ملتهما كلماتها بين شفتيه, أخذتها المفاجأة ولم تقاوم في البداية ولكن بعد أن شعرت بيديه وهما تجوسان بين حنايا جسدها حتى حاولت الافلات وان كانت مقاومة ضعيفة قضى عليها ليث في وقتها لتستسلم رافعة ذراعيها بتردد محيطة بعنقه القوي, فيميل بها كلية فوق الفراش لتنبطح على ظهرها بينما يعلوها هو ولا يزال مبحرا بها في لجة عناق قوي يغوص معها في بحر عميق شاطئه ذراعيه.. واحة أمانها..
صوت طرقات على الباب قاطعت تلك اللحظات بينهما, ظنتها سلسبيل في البدء من مخيلتها ولكنها أنصتت قليلا لتعلم أنها دقات فعلية, حاولت التملص من قبضته وهي تزيح شفتيها جانبا هاتفة:
– ليث.. ليث الباب يا ليث..
ليث بشرود وهو تائه فيها بينما تنتقل شفتاه على عنقها مرورا بحلقها لتصل الى عظمة الترقوة بقبلات ملتهبة صغيرة:
– اممممم.. مالَه الباب؟..
حاولت سلسبيل الابتعاد عن مرمى شفتيه وهي تقول برجاء بينما الطرقات مستمرة:
– يا ليث الباب بيطُوجْ!..
ليتوقف عن تقبيلها وهو يطالعها بنظرات زائغة مشتتة ثم تشير له بعينيها تجاه الباب ليسمع الدقات العالية فتكرر كلماتها:
– الباب عيطُوج!..
ثم بدفعة صغيرة أزاحته من فوقها وهرعت الى المرآة لترتب ثيابها وهي تسأل بصوت عال عمن يكون الطارق ليجيبها صوت صغير أنه أنا… شبل وعدنان!, لملمت شعرها الثائر بربطة محكمة , وطالعت نفسها في المرآة لترى شفتيها المنتفختين اللتات تحملان أثر هجوم ليث عليهما, لتتجه الى الباب فتفتحه غافلة عن ذلك القابع فوق الفراش وقد ضرب برأسه في الحائط أعلى السرير وهو يردد بصوت خافت ويأس:
– وانتي الصادجة.. أني اللي هطوج مش الباب!..
وما أن فتحت الباب حتى اندفع الصغير شبل وفي أعقابه عدنان شقيقه مهللين ويتجهان الى ليث الراقد فوق الفراش والذي ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه ما أن وقع ناظريه عليهما, ليقفزا بجواره فوق الفراش بينما يقول شبل بلوم:
– انت وعدتنا هتلعب امعانا, انت نسيت يا بويْ؟!
ليتسمر ليث وسلسبيل مكانهما يتبادلان النظرات هو في مكانه فوق الفراش يتوسط الصغيرين وهي واقفة أمامه, ثم التفت ليث الى شبل ليحتضنه بقوة قائلا وهو يتشمم رائحته الطفولية الذكية:
– لاه.. أني أجدر أنسى وعد وعدته لـ… ولدي!!..
لتترقرق الدموع في عيني سلسبيل, ليست دموع حزن ولكنها وللمفاجأة دموع فرح!, فقد عوض الله صغارها عن أبيهما الراحل بعمهما.. ذلك الأب الحنون والذي شعرا بأبوته, فلم يكن صغيرها ليهتف به مناديا اياه بأبي ان لم يستشعرها حقيقة, فالأطفال يتعاملون بالفطرة فقط, لا يعلمون ما المجاملة ولا يتعاطونها!.., وألقت الى ليث بنظرة فهمها الأخير… فهي تشكره على رعايته لولديها… نظرة امتزجت بها أخرى تدل على إعجاب صرف.. ليعلم ليث أنه قد بدأ باختراق حصون قلبها.. ولن يتوقف قبل أن يدق أسوارها كلية لتعلن الاستسلام التاااااام لقلبه العاشق!!..
***************
يتبع