كبير العيلة
الحلقة الخامسة
بقلمي /احكي ياشهرزاد (منى لطفي)
التفت عائلة عدنان الخولي حول مائدة الطعام, جلس عدنان على رأس المائدة الى يمينه ولده الأكبر ليث والى اليسار راضي وبجانبه زوجه سلسبيل, والى يمين ليث راجية الأم..
– إعملت ايه في سفرك اللي كنت فيه يا راضي, إن شالله إتوفّجت؟
أنزل راضي الملعقة التي يتناول بها الطعام وابتلع لقمته ونظر الى والده مجيبا بحماس:
– الحمد لله يا حاج, البضاعة وصلت سليمة والتجار استلموها واتشوّنت في المخازن كُمان..
نظر اليه شقيقه الأكبر ببرود وتحدث وهو يمسك بملعقته يتناول بها بعض الأرز قبل أن يرفعها لفمه:
– إلمْهِم يدفعوا في المعاد بالمظبوط, ماعاوزينش إيطمحوا فينا شمال ويمين لمّن ياجي معاد الدفع….
هتف راضي:
– لاه يا وِلد أبويْ في دِه أنا مطمن دول كلاتهم تجار تُجال وكلمتهم متْل السيف, وبعدين هما دفعوا مُجدّم فعلا والباجي بشيك كيف ما بنتعامل مع الكل….
قال عدنان بهدوء:
– على خيرة الله, همّن مش اجداد علينا اتعاملنا معهم كَتير جبل سابج, اللهم غير مسعود الراجي, ودِه سُمعته زينة في السوج..
مال راضي على أذن سلسبيل وهمس بابتسامته التي تعشقها:
– أم عدنان مش بتاكل ليِه؟
نظرت اليه بحيائها المعهود وأجابت وهي تسترق النظر لوجوه المحيطين بهما حول المائدة:
– لاه باكل أهاه, ما تشغلشي بالك إنت, بس جولي عجبك الوكْل؟
أجاب بهمس:
– انتي اللي طابخه صوح؟, شميت ريحة يدك في الوكِّل, كَنُّه فيه فل ويَاسَمين!!
كتمت ضحكتها بصعوبة بينما علم مقدار خجلها خاصة في حضور والديه, فابتعد عنها قليلا لتحين منها نظرة الى الأمام فتفاجأ ببرود صقيعي من مقلتين غاية في السواد تماما كسواد قلب صاحبهما, وليس هذا بعجيب…. فتلك القسوة التي تغلف قلبه قد استمدها من إسمه…. ليث!!
*******************
– إلّا جولي يا رؤوف يا ولدي؟
نظر رؤوف الى والدته ومال الى الامام ليضع كوب الشاي الزجاجي من يده فوق الطاولة الزجاجية الصغيرة التي تتوسط الجلسة في غرفة الجلوس بقصرهم وأولاها انتباهه كاملا وهو يقول:
– أؤمري يا حاجة…
ابتسمت مجيبة:
– الأمر لله وحده يا غالي, هما بسلامتهم مَرَتك وبناتك هياجوا ميتى؟, اتوحشتهم جوي جوي يا ولدي, الدار مالهاشي حس من ساعة ما سافروم, خصوصي بتّك إصغيّرة دِيْ, دمها شهد مكرر, وشجاوتها علجتني فيها بزيادة..
صدحت ضحكات الحاج عبد الحميد وقال:
– وانتي الصادجة يا فاطنة, ليهم وحشة كبيرة خصوصي آخر العنجود سكر معجود, كانت طول الوجت تتنطنط حوالي إهنه وإهناك, وحديتها جميل, الواحد ما يزهجش منِّيه!
ابتسمت فاطمة وترقبت جواب ولدها بلهفة لم تخف عن أعين الموجودين بينما هناك آخر قابع في كرسيه يحتسي الشاي على مهل وتعبير وجهه لا يشي مطلقا بلهفته الحارقة لمعرفة جواب جدته: متى سيعود الغائب؟!, قال رؤوف بابتسامة هادئة:
– تسلمي يا أمي, انا لسه مكلمهم انهرده الصبح وسلمى المفروض انهرده الدكتور هيحدد لها الجزء الجديد اللي تشتغل عليه في الرسالة, فبإذن ربنا ممكن على بكرة بالكتير, هعرف هييجوا امتى بالظبط وهقولكم اكيد…
قال شهاب وهو يضع كوبه جانبا بعد أن أنهاه:
– لو لسه ما حجزوش في القطر.. انا ممكن أروح لهم أجيبهم يا عمي, مافيهاش أي مشكلة!..
ابتسم الجد سرورا بحفيده وبعرضه الذي لاقى استحسانا لديه, بينما قبض الآخر على كوبه غير آبه بسخونته ما إن سمع جواب عمه الذي قال بابتسامة:
– والله يا شهاب يا بني تقريبا مش هيرجعوا في القطر, ابن خالتهم موجود وصمم يرجعهم, مرات عمك لسه قايلالي انهرده وأنا وافقت, عموما تُشكر يا شهاب شايلينك لوقت عوزة, لسه يا ما هيسافروا…
امتعض شهاب ولكنه أخفى ضيقه ذلك, بينما تحدث الجد قاطبا جبينه:
– وِلْد خالتهم؟, انت مش بتجول ان مرتك مالهاش خوات؟
أجاب رؤوف بابتسامة وهو يتناول كوبه ليتابع احتساء الشاي:
– أمه يا حاج تبقى بنت خالة ألفت, يعني كريم يعتبر بمقام إبن أختها, دا غير إني تقريبا اللي مربيه, كانوا معانا واحنا في الخليج ولما نزلنا مصر حصولنا بعدها بسنتين, فما تخافش يا حاج ولد متربي وهيعجبك لما تشوفه..
– أستأذن أني يا حاج, عن اذنك يا حاجة, معلهش يا عمي ورايا شوية مصالح لازمن أروح أجضيها!..
هتف غيث بهذه العبارة بعد أن وضع كوبه جانبا لينهض سريعا جعل الجميع يطالعونه بدهشة فأدلى بعبارته تلك ليشرح لهم سبب مقاطعته لهم ونهوضه بذلك الشكل المفاجئ, مال على يد جده يقبلها وجدته وقبل رأس عمه وانصرف بينما تبعه شهاب مناديا:
– استنى يا غيث خدني معك..
ليلحق بشقيقه التوأم وسط نظرات الدهشة من رؤوف وابتسامة كادت تكشف عن نفسها من الجد سارع بإخفائها ولكن ليس بالسرعة الكافية فقد انتبهت لها زوجه والتي تعرفه جيدا وكيف لا وهما زوجان منذ ما يزيد عن نصف قرن, في حين دخل عثمان وهو يلمح ولديه وهما يخرجان سريعا وقال بدهشة:
– فيهم ايه التنين دول؟, واخدين في وشّهم ناجص يرمحوا رمح!
قال الجد بهدوء:
– ابدا يا عتمان يا ولدي, افتكروا مُصلحة وراهم لازمن يجضوها, اومال فينها راوية؟
جلس بجوار أبيه وأجاب بلا مبالاة:
– بتجول راسها مصدّع إشوي وعاوزة تنام, خلّيها براحتها..
نظرت فاطمة جديا الى إبنها الكبير, وهي تتشكك في السبب الحقيقي لاختلاء راوية بنفسها في غرفتها!…
***********************
– ايه يا عم الشباب, مالك بس؟, من ساعة ما ركبت الحصان وطرت بيه وانا طلعت وراك مش عارف أجيبك؟
صمت غيث ولم يجبه, وكان قد ترجل من فوق فرسه العربي الأصيل الضخم الاسود اللون, وقد وقف في فسحة خضراء على تل مرتفع يشرف على البلدة, وكان قد صعد الى غرفته ليبدل ثيابه قبل ان يتجه من فوره الى الاصطبلات ليصعد فوق “عنتر” فرسه الأصيل ليقوم بنزهة طويلة معه, كي يخلو الى نفسه, ويتخلص من تلك الانفعالات التي تمور في صدره, فكما هي عادته أبدا لا تظهر على وجهه أي ردود أفعال لأي أمر كان, فهو من النادر أن يغضب أو ينفعل مهما حدث, وحدها تلك الشيطانة الصغيرة التي منذ أن وطئت بقدمها منزلهم, وهي تصنع منه غيثا غريبا عليه, لم يسبق له وأن عرفه!
أجاب ببرود وهو يقف عاقدا ساعديه السمراوين بينما الهواء يعبث في خصلاته السوداء الشديدة القصر:
– وانت ايه اللي هامك جوي اكده؟, ثم.. ايه اللي جابك ورايْ؟
وقف شهاب بجانبه بعد أن ألقى بنظرة الى الجوادين الواقفين يأكلان بصمت من نبات الأرض, تقدم حتى وقف على بعد خطوات منه وقال بينما يطالع شقيقه الذي يوليه ظهره:
– عادي يا غيث, انت ناسي أني توأمك؟
قطب غيث جبينه ولف إليه بنصف استدارة وسأل:
– جصدك ايه؟
تقدم شهاب حتى أصبح في مرمى بصره ونظر اليه مليّا قبل أن يجيب بابتسامة هادئة:
– يعني أنا أكتر واحد يحس بيك, مهما خبيت على الناس كلها مش هتقدر تخبي عني أنا, احنا واحد يا غيث ولا نسيت؟.
التفت اليه غيث كليّة وقال بابتسامة ساخرة:
– جول لروحك يا باشمهندز!, أني كُمان أكتر واحد يعرفك صوح, اني ملاحظ انك بجالك فترة مش زي عوايدك, فين خروجاتك وسهرك لوش الفجر؟, فينه ولد أبو سويلم؟
أجاب شهاب مشيحا بنظره الى البعيد بهدوء:
– هو انا أسهر مش عاجب ما أسهرش بردو مش عاجب؟, عموما ولا يهمك يا كبير… هخرج انهرده وأسهر ارتحت؟
هز غيث برأسه يأسا من توأمه وأجاب هازئا:
– انت حر وأني مالي, بس المهم دماغك تكون فاضية مش بتونّ كيف النحلِه!
قطب شهاب جبينه في حيرة وهتف:
– إيه؟, قصدك إيه؟
ولكن غيث لم يمهله وانطلق راكبا فرسه في حين ركض خلفه شهاب ليقفز فوق ظهر فرسه الأصهب هو الآخر وهو يصيح عاليا:
– غيث.. ما ينفعش ترمي كلمتين وتمشي, غيث اقف بقولك!
لتصدح ضحكات غيث عاليا يتبعها زمجرة شهاب الغاضبة..
******************
وقفت السيارة لتترجل سلافة سريعا وهي تقفز بخطوات سعيدة حيث والدها يقف في انتظارها مع جدها, لم تنتظر أمها وشقيقتها أو كريم, وأسرعت الى والدها تحتضنه بشوق ولهفة وهي تقول:
– ياااه, وحشتني أوي أوي يا بابايا..
أبعدها عن ذراعيه قليلا ومال عليها مقبلا جبينها وهو يقول بحنان أبوي:
– وانتي وحشتيني أوي يا حبيبة بابا..
قال الجد بمرح وهو يفتح ذراعيه:
– بوكي بس اللي اتوحشتيه يا نصابة؟
ضحكت سلافة بمرح وقالت وهي تلقي بنفسها بين ذراعي الجد الممدوتين حيث يقف بعباءته المخملية الثمينة السوداء اللون:
– معقول يا بابا جدو؟!, حضرتك وحشتني أوي وماما ستو كمان..
أجاب الجد ضاحكا:
– إلا ماما ستُّو ديْ, هتنجنْ عليكو وعليكي انتي بالخصوص.
ابتعدت عنه قليلا وهتفت:
– هي جوّه صح؟, هدخل أسلم عليها…
لتسمع هتافا باسمها, التفتت لترى شقيقتها وهي تصعد درجات السلم الرخامي العريض حيث يقف والدها والجد في استقبالهم, هتفت سلمى ناظرة اليها بتأنيب:
– انتي دايما كدا!, اصبري أما أسلم على بابا وجدو الأول وأدخل معاكي…
صافحت والدها وجدها معانقة إياهما, وجاء دور ألفت التي صافحت الجد الذي رحب بها ثم التفت الى الضيف الذي أتى بصحبتهن, كان شابا يقرب عمر غيث وشهاب, بنيته ضعيفة نوعا ما, شعره مائل للون البني, قمحي البشرة, ليس به شيئا يُلفت النظر سوى مرحه الذي يتجلى في ابتسامته العريضة ونظراته المرَّحبة التي يرسلها الى الواقف أمامه, مد يده مصافحا رؤوف ثم الجد الذي رحب به قائلا:
– حمد لله على سلامتكم يا ولدي, معلهش تعبت من المشوار دِهْ..
نفى كريم بهزة قاطعة من رأسه قائلا:
– أبدا لا تعب ولا حاجة يا حاج, دول أهلي…
حان من الجد التفاتة يمنى ويسرى, فمال رؤوف عليه قائلا:
– بتدور على حاجة يا حاج؟
هتف الجد وهو يفتش بعينيه:
– راحوا فين دول؟, انا موكّد عليهم يبجوا موجودين.. عتمان راح الديوان من الصبح, والتاني معيروحِش المزرعة الا بمزاجه, يبجى راحوا فين؟
قبل أن يجيبه رؤوف أبصرهما الجد وهما يقبلان عليهما من ناحية الاصطبلات, ومن هيئتهما علم أنها كانا في نزهة فوق ظهور الخيل, وقف كلا من غيث وشهاب للسلام عليهم بإيماءة رأس خفيفة منهما الى كل من سلمى وأمها بينما لم تنتبه سلافة التي كانت تتحدث مع كريم جانبا, سعلت سلمى لتنتبه سلافة التي استدارت لتنظر الى ابنيْ عمها وهما يقفان يطالعنها بكل برود, هزت برأسها قائلة بابتسامة:
– اهلا يا غيث, ازيك يا شهاب..
ثم أشارت الى كريم الواقف بجانبها يبتسم بهدوء:
– كريم ابن خالتي..
مد شهاب يده لمصافحته, تبعه غيث الذي ضغط على يده بقوة جعله يطالعه بدهشة, فتمتم من بين أسنانه:
– شرفتنا…
دعا الجد الجميع للدخول, بعد ان استقر بهم المقام في غرفة الجلوس وقد استأذنت ألفت وبناتها للصعود الى طابقهم, التفت الجد الى كريم الجالس ليسأله بابتسامة خفيفة:
– إلا بالحج رؤوف ولدي ما جاليش انت بتشتغل ايه؟
ابتسم كريم قائلا:
– دكتور يا حاج..
كان كريم يجلس الى المقعد يمين الجد الذي جلس على الاريكة, والى اليسار جلس رؤوف بجوار الجد بينما احتل غيث وشهاب الأريكة الثانية المواجهة لكريم, نظر الجد الى وجهي حفيديه ليبتسم في نفسه فأحدهما يعتمد البرود في نظراته بينما داخله يتآكل غيظا يظهر بوضوح من نظراته الخائنة التي لاحقت طيف تلك الجنية الصغيرة وهي تختفي مع أمها وشقيقتها, بينما الآخر فتعبير وجهه ينبأ بوضوح عما يختلج داخله من مشاعر, فمن الواضح انه لا يستسيغ هذا الـ.. كريم!, تدخل رؤوف قائلا:
– كريم دكتور مخ وأعصاب في نفس المستشفى اللي سلمى بنتي بتشتغل فيها, هو اكبر منها بسنتين..
ليتنفس أحد الجالسين براحة جزئية بينما يكور الآخر قبضته في حدة مباغتة, لا يعلم لما غضبه عندما علم بأنه يعمل في نفس المكان الذي تعمل به صاحبة غابات الزيتون!!
قال الجد مسرورا:
– بسم الله ما شاء الله, اعمل إحْسابك يا دكتوُوُر.. انت هتتغدى عندينا إنّهاردِه…
حاول كريم الاعتذار قائلا:
– معلهش وقت تاني يا حاج, حضرتك عارف السكة طويلة, علشان ألحق أرجع في النور..
– أنا قلت لجدي أروح أجيبهم بس عمي قالي انك انت اللي عرضت ترجعهم, لو كدا ما كنتش تعبت نفسك في الأساس!
هتف شهاب بهذه العبارة بحدته المعهودة, نظر اليه الجد زاجراً بينما قطب رؤوف جبينه في حيرة من حدة ابن أخيه, أما غيث فنظر اليه بلوْم وتأنيب , فدائما ما يغلب شقيقه طبعه العصبي الحاد, بينما قطب كريم وأجاب وهو غير راض عما استشفه من حديث شهاب من أنه قد قام بتوصيل خالته وابنتيها عن كره منه, ابتسم وقال:
– أنا مش فاهم انت فهمت ايه من كلامي بالظبط؟!, لكن لو أنا كنت متضايق من المشوار ما كنتش عرضت من الأصل, سلمى وسلافة وخالتي ألفت دول أمانة عندي طول ما عمي رؤوف مش موجود, وبعد إذنك يا عمي أنا طلبت من سلمى في أي وقت عاوزة تنزل مصر , ما تشيلش هم الرجوع أنا هرجعها زي انهرده تمام…
كاد شهاب أن يصرخ بوجهه محتدًّا عندما قبض غيث على رسغه ونظر اليه مهدِّئاً في حين تحدث الجد:
– لا يا ولدي ما حدش فهمك غلط ولا حاجة, كل الحكاية اننا عارفين المشوار وعر كيف, فبدال انك تاجي وتعاود في نفس اليوم كان ابن عمهم هيجيبهوم, وبعدين سلمى ماينفعشي تسافر مصر لوحديها…
أجاب كريم بتلقائية:
– لا سلافة هتكون معاها, انا اتفقتم معهم على كدا!!
كاد غيث هذه المرة أن يقفز من مقعده محتدا على هذا الجالس أمامه والذي أعطى لنفسه حق تقرير ما الأصلح لبنات عمه, ولكن قبضة شهاب القوية على معصمه منعته فنظر اليه ليهز شهاب برأسه مهدِّئًا إياه هو هذه المرة…
تحدث رؤوف الذي شعر بشرارات تتطاير في المكان, وأحس بتململ إبنيْ أخيه من كريم , فقال راغبا بوضع حد لهذا الأمر:
– عموما أنا اتفقت مع سلمى بعد كدا تخلي كل سفرها بالقطر, تروح بالنهار وترجع بالنهار وهتكون معاها سلافة اختها, ودلوقتي بقه احكي لنا يا كريم, جيت على طول.. عرفت البلد على وصفي ليها ولا اضطريت تسأل؟
وهكذا أبدل رؤوف موضوع الحديث, ليتجاذبوا أطراف الكلام بعيدا عن موضوع سفر ابنيته!!
************************
رحل كريم بعد الغذاء رافضا عرض الجد بالمبيت الليلة مؤجلا رحلة العودة الى الغد, ودّع الجميع, ورحل وهو مندهش من العادات السائدة في هذه العائلة والمستقاة من بلدها, فهو لا يستطيع التصديق انه الى الآن لا تجتمع العائلة على مائدة واحدة اذا كان هناك غريب!, هو ليس بغريب, ولكن أثناء تناولهم طعام الغذاء اندهش لعدم وجود أيّا من خالته او ابنتيها وفسر له هذا الأمر عمه رؤوف أنه من عادات بلدته الفصل بين الرجال والنساء إذا ما تواجد ضيف بينهم!
لوحت سلافة بيدها الى كريم وابتسامة كبيرة ترتسم على وجهها, ثم قررت أن تتجول قليلا في الحديقة بينما انصرفت أختها الى غرفتهما لنيل قسط من الراحة تماما كما فعل والديها.
كانت تقف تحت شجرة ورد جوري, وقد قطفت احدى الوردات تتنشق رائحتها العطرة, وأغمضت عينيها وهي تتلاعب بالوردة فتلمس وجنتيها بأوراقها الطريّة عندما تناهى الى سمعها صوت في برود الثلج يقول:
– على فين يا بت عمي؟
فتحت عينيها ونظرت الى مصدر الصوت لتشاهد غيث وكان لا يزال بثياب ركوب الخيل المكونة من بنطال أسود من الكتان يعلوه حذاء الركوب اسود اللون ذو عنق طويل يصل أسفل الركبة, وقميص أسود محكم على جذعه العلوي يفصل عضلات صدره القوية, ويمسك بيده بمهماز الركوب, تحدثت بابتسامة:
– ابدا يا ابن عمي, بتمشى شوية…
أجاب ووجهه لوحة صماء لا تعبر عما يدور بداخله:
– أصلي لاجيتك ما عاودتيش بعد ولد خالتك ما مشي, ايه زعلانه انه راح وهملكم؟
قطبت واجابت بابتسامة حائرة:
– همّلكم؟, قصدك سابنا يعني؟, لا طبعا هزعل من ايه؟, كريم عنده شغله وانا عارفة انه مش هيقدر يتأخر عليه!!
اقترب منها وهو يمسك بنهاية المهماز بيده اليمنى ويضرب به راحة يده اليسرى وقال ببرود بينما فتيلا صغيرا بداخله بدأ بالاشتعال:
– انت خابرة ولد خالتك زين على إكده؟
أجابت بتلقائية شديدة وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيها الكرزتين أخذت بلبِّ غيث وجعلته يطالعها بانشداه:
– كريم!, طبعا, كريم دا أنا قعدت معاه عمري كله تقريبا, زي ما اتقول كدا اتربيت على ايده, هو اكبر مني ب 6 سنين, وكنا مع بعض في دبي مكان شغل بابا, وهو وطنط وفاء وعمو نبيل واخته سهى كانوا معانا, الغربة بتخلي الغُرب قرايب فما بالك بالقرايب بقه؟, ورجعنا في نفس التوقيت تقريبا, هما علشان جواز سهى واحنا علشان الكلية, كريم كان بيدرس هنا وينزل في الاجازات, ولما كنا لسه في دبي كنت أنا وسلمى بنستنى نزوله بفروغ صبر, هو اللي كان بيخرجنا ويودينا المكان اللي احنا عاوزينه, طول السنة ما فيش خروج لكن أول ما كريم ييجي بابا بيدينا الاذن نروح في أي مكان طالما هو معانا, كريم…..
ليقطع حديثها المسترسل صرخة غضب محتدة:
– بس خلاص!
قطبت ونظرت الى غيث الذي تصدعت واجهة البرودة التي يعتمدها بينما تابع وقد ألقى المهماز بعنف من يده وهو يقترب منها ليقف أمامها ناظرا في عينيها هاتفا بقوة:
– كفاياكي, ايه.. انتي ما عتكسفيش واصل إكده؟, كريم.. كريم.. كريم… يُبجالك إيه كريم دِه عشان تتكلمي عنّيه بالطريجة ديْ؟..
شهقت باستنكار وقالت:
– إيه؟, انت بتقول ايه؟,أنت…
ليقاطعها مزمجرا:
– بلا إيه بلا تيه بجه!, ايه مش واعيه لروحك؟, كريم دِه لا هو بوكي ولا خوكي عشان تتكلمي عنيه بالشكل الماسخ دِه!..
نظرت اليه بذهول بينما تابع مقلدا إياها محركا يديه الى اليمين والى اليسار:
– كريم وكريم, ويا كريم…, مش واعية لروحك إياك؟!
حاولت تمالك نفسها ووقفت أمامه وهي تهتف بقوة:
– هقول إيه, واضح كدا انك مش ممكن تفهم يعني ايه ” رب أخ لك لم تلده أمك!”, كريم اللي مش عجبك دا يبقى أخويا اللي أمي ما ولدتوش, وبابا لو كان شايف في أي غلط كان أول واحد وقف لنا, لكن بابا عارف احنا أد ايه مرتبطين بكريم وعيلته, عارف ليه يا غيث بيه؟..
لم تنتظر اجابته وأجابت هي بدلا عنه هاتفة بقوة:
– لأن دول العيلة الوحيدة اللي احنا كبرنا في حضنها, دول العيلة اللي خدتنا في حضنها بجد, اللي حاسينا معهم بطعم العزوة والسند, في وقت عيلتنا الحقيقية كانت متبريه من أبونا علشان سبب ما يستحقش, اللي كريم عمله معايا انا وسلمى المفروض انت واخوك كنتم تعملوه, كم مرة كان نفسي في أخ أو ابن عم يكون دمي وسندي أنا وأختي ومالاقيتش!, يوم ما بابا وقع مالقيناش غير كريم وعمو نبيل نستنجد بيهم, كريم هو اللي شال بابا على كتفه ووداه المستشفى ما استناش الاسعاف, كريم هو اللي كان بيطبطب على ماما ويشد على ايدي أنا وسلمى وبابا في الرعاية ويطمنا انه بابا هيبقى بخير, مش حد من عيلة الخولي, بعد دا كله تيجي تقولي انتي مش واعية, لأ.. آسفة انت اللي مش واعي بالظبط انتو ايه بالنسبة لنا؟, العيلة مش بالاسم, علشان كدا هتقولي مين اللي اقرب لك.. هقولك كريم, كريم دا ابن خالتي وابن عمي وأخويا وكل حاجة.. لكن أنت… ابن عمي الكبير وبس, بيني وبينك اسمنا اللي في شهادة الميلاد, غير كدا معرفوش وما يهمنيش اني أعرفه, عن اذنك!!
لتلقي بالوردة التي كانت بيدها بعنف على الأرض واستدارت مغادرة وسط ذهول غيث الصاعق, فلأول مرة يرى جانبا لم يختبره من ابنة عمه الصغيرة, تلك الجنية الصغيرة لها مخالب تخدش بها, بل إنها تزمجر كالهرة الشرسة, حسنا يا صغيرة آن لك أن تعلمي أنك تنتمين لعائلة الخولي قلبا وقالبا وأنك قد عدت الى مكانك الطبيعي بينهم ومهما حدث لن تفارقي مكانك بين أحضانهم الى الأبد!!, لتحين منه نظرة الى الأرض أسفل قديمه, فركع على ركبتيه ثم نهض واقفا قابضا على شيء في راحة يده, ما لبث أن فتح راحة يده لتظهر تلك الوردة التي ألقتها سلافة, فيقرّبها الى أنفه يتشمم رائحتها, وقال وهو ينظر الى وريقاتها التي تقطعت بعضها وكأنه يلقي بقسم على نفسه:
– هثبت لك يا بنت عمّي انه اللي بيناتنا مش اسمنا اللي في شهادة الميلاد وبس!!
– يتبع –
الحلقة الخامسة
بقلمي /احكي ياشهرزاد (منى لطفي)
التفت عائلة عدنان الخولي حول مائدة الطعام, جلس عدنان على رأس المائدة الى يمينه ولده الأكبر ليث والى اليسار راضي وبجانبه زوجه سلسبيل, والى يمين ليث راجية الأم..
– إعملت ايه في سفرك اللي كنت فيه يا راضي, إن شالله إتوفّجت؟
أنزل راضي الملعقة التي يتناول بها الطعام وابتلع لقمته ونظر الى والده مجيبا بحماس:
– الحمد لله يا حاج, البضاعة وصلت سليمة والتجار استلموها واتشوّنت في المخازن كُمان..
نظر اليه شقيقه الأكبر ببرود وتحدث وهو يمسك بملعقته يتناول بها بعض الأرز قبل أن يرفعها لفمه:
– إلمْهِم يدفعوا في المعاد بالمظبوط, ماعاوزينش إيطمحوا فينا شمال ويمين لمّن ياجي معاد الدفع….
هتف راضي:
– لاه يا وِلد أبويْ في دِه أنا مطمن دول كلاتهم تجار تُجال وكلمتهم متْل السيف, وبعدين هما دفعوا مُجدّم فعلا والباجي بشيك كيف ما بنتعامل مع الكل….
قال عدنان بهدوء:
– على خيرة الله, همّن مش اجداد علينا اتعاملنا معهم كَتير جبل سابج, اللهم غير مسعود الراجي, ودِه سُمعته زينة في السوج..
مال راضي على أذن سلسبيل وهمس بابتسامته التي تعشقها:
– أم عدنان مش بتاكل ليِه؟
نظرت اليه بحيائها المعهود وأجابت وهي تسترق النظر لوجوه المحيطين بهما حول المائدة:
– لاه باكل أهاه, ما تشغلشي بالك إنت, بس جولي عجبك الوكْل؟
أجاب بهمس:
– انتي اللي طابخه صوح؟, شميت ريحة يدك في الوكِّل, كَنُّه فيه فل ويَاسَمين!!
كتمت ضحكتها بصعوبة بينما علم مقدار خجلها خاصة في حضور والديه, فابتعد عنها قليلا لتحين منها نظرة الى الأمام فتفاجأ ببرود صقيعي من مقلتين غاية في السواد تماما كسواد قلب صاحبهما, وليس هذا بعجيب…. فتلك القسوة التي تغلف قلبه قد استمدها من إسمه…. ليث!!
*******************
– إلّا جولي يا رؤوف يا ولدي؟
نظر رؤوف الى والدته ومال الى الامام ليضع كوب الشاي الزجاجي من يده فوق الطاولة الزجاجية الصغيرة التي تتوسط الجلسة في غرفة الجلوس بقصرهم وأولاها انتباهه كاملا وهو يقول:
– أؤمري يا حاجة…
ابتسمت مجيبة:
– الأمر لله وحده يا غالي, هما بسلامتهم مَرَتك وبناتك هياجوا ميتى؟, اتوحشتهم جوي جوي يا ولدي, الدار مالهاشي حس من ساعة ما سافروم, خصوصي بتّك إصغيّرة دِيْ, دمها شهد مكرر, وشجاوتها علجتني فيها بزيادة..
صدحت ضحكات الحاج عبد الحميد وقال:
– وانتي الصادجة يا فاطنة, ليهم وحشة كبيرة خصوصي آخر العنجود سكر معجود, كانت طول الوجت تتنطنط حوالي إهنه وإهناك, وحديتها جميل, الواحد ما يزهجش منِّيه!
ابتسمت فاطمة وترقبت جواب ولدها بلهفة لم تخف عن أعين الموجودين بينما هناك آخر قابع في كرسيه يحتسي الشاي على مهل وتعبير وجهه لا يشي مطلقا بلهفته الحارقة لمعرفة جواب جدته: متى سيعود الغائب؟!, قال رؤوف بابتسامة هادئة:
– تسلمي يا أمي, انا لسه مكلمهم انهرده الصبح وسلمى المفروض انهرده الدكتور هيحدد لها الجزء الجديد اللي تشتغل عليه في الرسالة, فبإذن ربنا ممكن على بكرة بالكتير, هعرف هييجوا امتى بالظبط وهقولكم اكيد…
قال شهاب وهو يضع كوبه جانبا بعد أن أنهاه:
– لو لسه ما حجزوش في القطر.. انا ممكن أروح لهم أجيبهم يا عمي, مافيهاش أي مشكلة!..
ابتسم الجد سرورا بحفيده وبعرضه الذي لاقى استحسانا لديه, بينما قبض الآخر على كوبه غير آبه بسخونته ما إن سمع جواب عمه الذي قال بابتسامة:
– والله يا شهاب يا بني تقريبا مش هيرجعوا في القطر, ابن خالتهم موجود وصمم يرجعهم, مرات عمك لسه قايلالي انهرده وأنا وافقت, عموما تُشكر يا شهاب شايلينك لوقت عوزة, لسه يا ما هيسافروا…
امتعض شهاب ولكنه أخفى ضيقه ذلك, بينما تحدث الجد قاطبا جبينه:
– وِلْد خالتهم؟, انت مش بتجول ان مرتك مالهاش خوات؟
أجاب رؤوف بابتسامة وهو يتناول كوبه ليتابع احتساء الشاي:
– أمه يا حاج تبقى بنت خالة ألفت, يعني كريم يعتبر بمقام إبن أختها, دا غير إني تقريبا اللي مربيه, كانوا معانا واحنا في الخليج ولما نزلنا مصر حصولنا بعدها بسنتين, فما تخافش يا حاج ولد متربي وهيعجبك لما تشوفه..
– أستأذن أني يا حاج, عن اذنك يا حاجة, معلهش يا عمي ورايا شوية مصالح لازمن أروح أجضيها!..
هتف غيث بهذه العبارة بعد أن وضع كوبه جانبا لينهض سريعا جعل الجميع يطالعونه بدهشة فأدلى بعبارته تلك ليشرح لهم سبب مقاطعته لهم ونهوضه بذلك الشكل المفاجئ, مال على يد جده يقبلها وجدته وقبل رأس عمه وانصرف بينما تبعه شهاب مناديا:
– استنى يا غيث خدني معك..
ليلحق بشقيقه التوأم وسط نظرات الدهشة من رؤوف وابتسامة كادت تكشف عن نفسها من الجد سارع بإخفائها ولكن ليس بالسرعة الكافية فقد انتبهت لها زوجه والتي تعرفه جيدا وكيف لا وهما زوجان منذ ما يزيد عن نصف قرن, في حين دخل عثمان وهو يلمح ولديه وهما يخرجان سريعا وقال بدهشة:
– فيهم ايه التنين دول؟, واخدين في وشّهم ناجص يرمحوا رمح!
قال الجد بهدوء:
– ابدا يا عتمان يا ولدي, افتكروا مُصلحة وراهم لازمن يجضوها, اومال فينها راوية؟
جلس بجوار أبيه وأجاب بلا مبالاة:
– بتجول راسها مصدّع إشوي وعاوزة تنام, خلّيها براحتها..
نظرت فاطمة جديا الى إبنها الكبير, وهي تتشكك في السبب الحقيقي لاختلاء راوية بنفسها في غرفتها!…
***********************
– ايه يا عم الشباب, مالك بس؟, من ساعة ما ركبت الحصان وطرت بيه وانا طلعت وراك مش عارف أجيبك؟
صمت غيث ولم يجبه, وكان قد ترجل من فوق فرسه العربي الأصيل الضخم الاسود اللون, وقد وقف في فسحة خضراء على تل مرتفع يشرف على البلدة, وكان قد صعد الى غرفته ليبدل ثيابه قبل ان يتجه من فوره الى الاصطبلات ليصعد فوق “عنتر” فرسه الأصيل ليقوم بنزهة طويلة معه, كي يخلو الى نفسه, ويتخلص من تلك الانفعالات التي تمور في صدره, فكما هي عادته أبدا لا تظهر على وجهه أي ردود أفعال لأي أمر كان, فهو من النادر أن يغضب أو ينفعل مهما حدث, وحدها تلك الشيطانة الصغيرة التي منذ أن وطئت بقدمها منزلهم, وهي تصنع منه غيثا غريبا عليه, لم يسبق له وأن عرفه!
أجاب ببرود وهو يقف عاقدا ساعديه السمراوين بينما الهواء يعبث في خصلاته السوداء الشديدة القصر:
– وانت ايه اللي هامك جوي اكده؟, ثم.. ايه اللي جابك ورايْ؟
وقف شهاب بجانبه بعد أن ألقى بنظرة الى الجوادين الواقفين يأكلان بصمت من نبات الأرض, تقدم حتى وقف على بعد خطوات منه وقال بينما يطالع شقيقه الذي يوليه ظهره:
– عادي يا غيث, انت ناسي أني توأمك؟
قطب غيث جبينه ولف إليه بنصف استدارة وسأل:
– جصدك ايه؟
تقدم شهاب حتى أصبح في مرمى بصره ونظر اليه مليّا قبل أن يجيب بابتسامة هادئة:
– يعني أنا أكتر واحد يحس بيك, مهما خبيت على الناس كلها مش هتقدر تخبي عني أنا, احنا واحد يا غيث ولا نسيت؟.
التفت اليه غيث كليّة وقال بابتسامة ساخرة:
– جول لروحك يا باشمهندز!, أني كُمان أكتر واحد يعرفك صوح, اني ملاحظ انك بجالك فترة مش زي عوايدك, فين خروجاتك وسهرك لوش الفجر؟, فينه ولد أبو سويلم؟
أجاب شهاب مشيحا بنظره الى البعيد بهدوء:
– هو انا أسهر مش عاجب ما أسهرش بردو مش عاجب؟, عموما ولا يهمك يا كبير… هخرج انهرده وأسهر ارتحت؟
هز غيث برأسه يأسا من توأمه وأجاب هازئا:
– انت حر وأني مالي, بس المهم دماغك تكون فاضية مش بتونّ كيف النحلِه!
قطب شهاب جبينه في حيرة وهتف:
– إيه؟, قصدك إيه؟
ولكن غيث لم يمهله وانطلق راكبا فرسه في حين ركض خلفه شهاب ليقفز فوق ظهر فرسه الأصهب هو الآخر وهو يصيح عاليا:
– غيث.. ما ينفعش ترمي كلمتين وتمشي, غيث اقف بقولك!
لتصدح ضحكات غيث عاليا يتبعها زمجرة شهاب الغاضبة..
******************
وقفت السيارة لتترجل سلافة سريعا وهي تقفز بخطوات سعيدة حيث والدها يقف في انتظارها مع جدها, لم تنتظر أمها وشقيقتها أو كريم, وأسرعت الى والدها تحتضنه بشوق ولهفة وهي تقول:
– ياااه, وحشتني أوي أوي يا بابايا..
أبعدها عن ذراعيه قليلا ومال عليها مقبلا جبينها وهو يقول بحنان أبوي:
– وانتي وحشتيني أوي يا حبيبة بابا..
قال الجد بمرح وهو يفتح ذراعيه:
– بوكي بس اللي اتوحشتيه يا نصابة؟
ضحكت سلافة بمرح وقالت وهي تلقي بنفسها بين ذراعي الجد الممدوتين حيث يقف بعباءته المخملية الثمينة السوداء اللون:
– معقول يا بابا جدو؟!, حضرتك وحشتني أوي وماما ستو كمان..
أجاب الجد ضاحكا:
– إلا ماما ستُّو ديْ, هتنجنْ عليكو وعليكي انتي بالخصوص.
ابتعدت عنه قليلا وهتفت:
– هي جوّه صح؟, هدخل أسلم عليها…
لتسمع هتافا باسمها, التفتت لترى شقيقتها وهي تصعد درجات السلم الرخامي العريض حيث يقف والدها والجد في استقبالهم, هتفت سلمى ناظرة اليها بتأنيب:
– انتي دايما كدا!, اصبري أما أسلم على بابا وجدو الأول وأدخل معاكي…
صافحت والدها وجدها معانقة إياهما, وجاء دور ألفت التي صافحت الجد الذي رحب بها ثم التفت الى الضيف الذي أتى بصحبتهن, كان شابا يقرب عمر غيث وشهاب, بنيته ضعيفة نوعا ما, شعره مائل للون البني, قمحي البشرة, ليس به شيئا يُلفت النظر سوى مرحه الذي يتجلى في ابتسامته العريضة ونظراته المرَّحبة التي يرسلها الى الواقف أمامه, مد يده مصافحا رؤوف ثم الجد الذي رحب به قائلا:
– حمد لله على سلامتكم يا ولدي, معلهش تعبت من المشوار دِهْ..
نفى كريم بهزة قاطعة من رأسه قائلا:
– أبدا لا تعب ولا حاجة يا حاج, دول أهلي…
حان من الجد التفاتة يمنى ويسرى, فمال رؤوف عليه قائلا:
– بتدور على حاجة يا حاج؟
هتف الجد وهو يفتش بعينيه:
– راحوا فين دول؟, انا موكّد عليهم يبجوا موجودين.. عتمان راح الديوان من الصبح, والتاني معيروحِش المزرعة الا بمزاجه, يبجى راحوا فين؟
قبل أن يجيبه رؤوف أبصرهما الجد وهما يقبلان عليهما من ناحية الاصطبلات, ومن هيئتهما علم أنها كانا في نزهة فوق ظهور الخيل, وقف كلا من غيث وشهاب للسلام عليهم بإيماءة رأس خفيفة منهما الى كل من سلمى وأمها بينما لم تنتبه سلافة التي كانت تتحدث مع كريم جانبا, سعلت سلمى لتنتبه سلافة التي استدارت لتنظر الى ابنيْ عمها وهما يقفان يطالعنها بكل برود, هزت برأسها قائلة بابتسامة:
– اهلا يا غيث, ازيك يا شهاب..
ثم أشارت الى كريم الواقف بجانبها يبتسم بهدوء:
– كريم ابن خالتي..
مد شهاب يده لمصافحته, تبعه غيث الذي ضغط على يده بقوة جعله يطالعه بدهشة, فتمتم من بين أسنانه:
– شرفتنا…
دعا الجد الجميع للدخول, بعد ان استقر بهم المقام في غرفة الجلوس وقد استأذنت ألفت وبناتها للصعود الى طابقهم, التفت الجد الى كريم الجالس ليسأله بابتسامة خفيفة:
– إلا بالحج رؤوف ولدي ما جاليش انت بتشتغل ايه؟
ابتسم كريم قائلا:
– دكتور يا حاج..
كان كريم يجلس الى المقعد يمين الجد الذي جلس على الاريكة, والى اليسار جلس رؤوف بجوار الجد بينما احتل غيث وشهاب الأريكة الثانية المواجهة لكريم, نظر الجد الى وجهي حفيديه ليبتسم في نفسه فأحدهما يعتمد البرود في نظراته بينما داخله يتآكل غيظا يظهر بوضوح من نظراته الخائنة التي لاحقت طيف تلك الجنية الصغيرة وهي تختفي مع أمها وشقيقتها, بينما الآخر فتعبير وجهه ينبأ بوضوح عما يختلج داخله من مشاعر, فمن الواضح انه لا يستسيغ هذا الـ.. كريم!, تدخل رؤوف قائلا:
– كريم دكتور مخ وأعصاب في نفس المستشفى اللي سلمى بنتي بتشتغل فيها, هو اكبر منها بسنتين..
ليتنفس أحد الجالسين براحة جزئية بينما يكور الآخر قبضته في حدة مباغتة, لا يعلم لما غضبه عندما علم بأنه يعمل في نفس المكان الذي تعمل به صاحبة غابات الزيتون!!
قال الجد مسرورا:
– بسم الله ما شاء الله, اعمل إحْسابك يا دكتوُوُر.. انت هتتغدى عندينا إنّهاردِه…
حاول كريم الاعتذار قائلا:
– معلهش وقت تاني يا حاج, حضرتك عارف السكة طويلة, علشان ألحق أرجع في النور..
– أنا قلت لجدي أروح أجيبهم بس عمي قالي انك انت اللي عرضت ترجعهم, لو كدا ما كنتش تعبت نفسك في الأساس!
هتف شهاب بهذه العبارة بحدته المعهودة, نظر اليه الجد زاجراً بينما قطب رؤوف جبينه في حيرة من حدة ابن أخيه, أما غيث فنظر اليه بلوْم وتأنيب , فدائما ما يغلب شقيقه طبعه العصبي الحاد, بينما قطب كريم وأجاب وهو غير راض عما استشفه من حديث شهاب من أنه قد قام بتوصيل خالته وابنتيها عن كره منه, ابتسم وقال:
– أنا مش فاهم انت فهمت ايه من كلامي بالظبط؟!, لكن لو أنا كنت متضايق من المشوار ما كنتش عرضت من الأصل, سلمى وسلافة وخالتي ألفت دول أمانة عندي طول ما عمي رؤوف مش موجود, وبعد إذنك يا عمي أنا طلبت من سلمى في أي وقت عاوزة تنزل مصر , ما تشيلش هم الرجوع أنا هرجعها زي انهرده تمام…
كاد شهاب أن يصرخ بوجهه محتدًّا عندما قبض غيث على رسغه ونظر اليه مهدِّئاً في حين تحدث الجد:
– لا يا ولدي ما حدش فهمك غلط ولا حاجة, كل الحكاية اننا عارفين المشوار وعر كيف, فبدال انك تاجي وتعاود في نفس اليوم كان ابن عمهم هيجيبهوم, وبعدين سلمى ماينفعشي تسافر مصر لوحديها…
أجاب كريم بتلقائية:
– لا سلافة هتكون معاها, انا اتفقتم معهم على كدا!!
كاد غيث هذه المرة أن يقفز من مقعده محتدا على هذا الجالس أمامه والذي أعطى لنفسه حق تقرير ما الأصلح لبنات عمه, ولكن قبضة شهاب القوية على معصمه منعته فنظر اليه ليهز شهاب برأسه مهدِّئًا إياه هو هذه المرة…
تحدث رؤوف الذي شعر بشرارات تتطاير في المكان, وأحس بتململ إبنيْ أخيه من كريم , فقال راغبا بوضع حد لهذا الأمر:
– عموما أنا اتفقت مع سلمى بعد كدا تخلي كل سفرها بالقطر, تروح بالنهار وترجع بالنهار وهتكون معاها سلافة اختها, ودلوقتي بقه احكي لنا يا كريم, جيت على طول.. عرفت البلد على وصفي ليها ولا اضطريت تسأل؟
وهكذا أبدل رؤوف موضوع الحديث, ليتجاذبوا أطراف الكلام بعيدا عن موضوع سفر ابنيته!!
************************
رحل كريم بعد الغذاء رافضا عرض الجد بالمبيت الليلة مؤجلا رحلة العودة الى الغد, ودّع الجميع, ورحل وهو مندهش من العادات السائدة في هذه العائلة والمستقاة من بلدها, فهو لا يستطيع التصديق انه الى الآن لا تجتمع العائلة على مائدة واحدة اذا كان هناك غريب!, هو ليس بغريب, ولكن أثناء تناولهم طعام الغذاء اندهش لعدم وجود أيّا من خالته او ابنتيها وفسر له هذا الأمر عمه رؤوف أنه من عادات بلدته الفصل بين الرجال والنساء إذا ما تواجد ضيف بينهم!
لوحت سلافة بيدها الى كريم وابتسامة كبيرة ترتسم على وجهها, ثم قررت أن تتجول قليلا في الحديقة بينما انصرفت أختها الى غرفتهما لنيل قسط من الراحة تماما كما فعل والديها.
كانت تقف تحت شجرة ورد جوري, وقد قطفت احدى الوردات تتنشق رائحتها العطرة, وأغمضت عينيها وهي تتلاعب بالوردة فتلمس وجنتيها بأوراقها الطريّة عندما تناهى الى سمعها صوت في برود الثلج يقول:
– على فين يا بت عمي؟
فتحت عينيها ونظرت الى مصدر الصوت لتشاهد غيث وكان لا يزال بثياب ركوب الخيل المكونة من بنطال أسود من الكتان يعلوه حذاء الركوب اسود اللون ذو عنق طويل يصل أسفل الركبة, وقميص أسود محكم على جذعه العلوي يفصل عضلات صدره القوية, ويمسك بيده بمهماز الركوب, تحدثت بابتسامة:
– ابدا يا ابن عمي, بتمشى شوية…
أجاب ووجهه لوحة صماء لا تعبر عما يدور بداخله:
– أصلي لاجيتك ما عاودتيش بعد ولد خالتك ما مشي, ايه زعلانه انه راح وهملكم؟
قطبت واجابت بابتسامة حائرة:
– همّلكم؟, قصدك سابنا يعني؟, لا طبعا هزعل من ايه؟, كريم عنده شغله وانا عارفة انه مش هيقدر يتأخر عليه!!
اقترب منها وهو يمسك بنهاية المهماز بيده اليمنى ويضرب به راحة يده اليسرى وقال ببرود بينما فتيلا صغيرا بداخله بدأ بالاشتعال:
– انت خابرة ولد خالتك زين على إكده؟
أجابت بتلقائية شديدة وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيها الكرزتين أخذت بلبِّ غيث وجعلته يطالعها بانشداه:
– كريم!, طبعا, كريم دا أنا قعدت معاه عمري كله تقريبا, زي ما اتقول كدا اتربيت على ايده, هو اكبر مني ب 6 سنين, وكنا مع بعض في دبي مكان شغل بابا, وهو وطنط وفاء وعمو نبيل واخته سهى كانوا معانا, الغربة بتخلي الغُرب قرايب فما بالك بالقرايب بقه؟, ورجعنا في نفس التوقيت تقريبا, هما علشان جواز سهى واحنا علشان الكلية, كريم كان بيدرس هنا وينزل في الاجازات, ولما كنا لسه في دبي كنت أنا وسلمى بنستنى نزوله بفروغ صبر, هو اللي كان بيخرجنا ويودينا المكان اللي احنا عاوزينه, طول السنة ما فيش خروج لكن أول ما كريم ييجي بابا بيدينا الاذن نروح في أي مكان طالما هو معانا, كريم…..
ليقطع حديثها المسترسل صرخة غضب محتدة:
– بس خلاص!
قطبت ونظرت الى غيث الذي تصدعت واجهة البرودة التي يعتمدها بينما تابع وقد ألقى المهماز بعنف من يده وهو يقترب منها ليقف أمامها ناظرا في عينيها هاتفا بقوة:
– كفاياكي, ايه.. انتي ما عتكسفيش واصل إكده؟, كريم.. كريم.. كريم… يُبجالك إيه كريم دِه عشان تتكلمي عنّيه بالطريجة ديْ؟..
شهقت باستنكار وقالت:
– إيه؟, انت بتقول ايه؟,أنت…
ليقاطعها مزمجرا:
– بلا إيه بلا تيه بجه!, ايه مش واعيه لروحك؟, كريم دِه لا هو بوكي ولا خوكي عشان تتكلمي عنيه بالشكل الماسخ دِه!..
نظرت اليه بذهول بينما تابع مقلدا إياها محركا يديه الى اليمين والى اليسار:
– كريم وكريم, ويا كريم…, مش واعية لروحك إياك؟!
حاولت تمالك نفسها ووقفت أمامه وهي تهتف بقوة:
– هقول إيه, واضح كدا انك مش ممكن تفهم يعني ايه ” رب أخ لك لم تلده أمك!”, كريم اللي مش عجبك دا يبقى أخويا اللي أمي ما ولدتوش, وبابا لو كان شايف في أي غلط كان أول واحد وقف لنا, لكن بابا عارف احنا أد ايه مرتبطين بكريم وعيلته, عارف ليه يا غيث بيه؟..
لم تنتظر اجابته وأجابت هي بدلا عنه هاتفة بقوة:
– لأن دول العيلة الوحيدة اللي احنا كبرنا في حضنها, دول العيلة اللي خدتنا في حضنها بجد, اللي حاسينا معهم بطعم العزوة والسند, في وقت عيلتنا الحقيقية كانت متبريه من أبونا علشان سبب ما يستحقش, اللي كريم عمله معايا انا وسلمى المفروض انت واخوك كنتم تعملوه, كم مرة كان نفسي في أخ أو ابن عم يكون دمي وسندي أنا وأختي ومالاقيتش!, يوم ما بابا وقع مالقيناش غير كريم وعمو نبيل نستنجد بيهم, كريم هو اللي شال بابا على كتفه ووداه المستشفى ما استناش الاسعاف, كريم هو اللي كان بيطبطب على ماما ويشد على ايدي أنا وسلمى وبابا في الرعاية ويطمنا انه بابا هيبقى بخير, مش حد من عيلة الخولي, بعد دا كله تيجي تقولي انتي مش واعية, لأ.. آسفة انت اللي مش واعي بالظبط انتو ايه بالنسبة لنا؟, العيلة مش بالاسم, علشان كدا هتقولي مين اللي اقرب لك.. هقولك كريم, كريم دا ابن خالتي وابن عمي وأخويا وكل حاجة.. لكن أنت… ابن عمي الكبير وبس, بيني وبينك اسمنا اللي في شهادة الميلاد, غير كدا معرفوش وما يهمنيش اني أعرفه, عن اذنك!!
لتلقي بالوردة التي كانت بيدها بعنف على الأرض واستدارت مغادرة وسط ذهول غيث الصاعق, فلأول مرة يرى جانبا لم يختبره من ابنة عمه الصغيرة, تلك الجنية الصغيرة لها مخالب تخدش بها, بل إنها تزمجر كالهرة الشرسة, حسنا يا صغيرة آن لك أن تعلمي أنك تنتمين لعائلة الخولي قلبا وقالبا وأنك قد عدت الى مكانك الطبيعي بينهم ومهما حدث لن تفارقي مكانك بين أحضانهم الى الأبد!!, لتحين منه نظرة الى الأرض أسفل قديمه, فركع على ركبتيه ثم نهض واقفا قابضا على شيء في راحة يده, ما لبث أن فتح راحة يده لتظهر تلك الوردة التي ألقتها سلافة, فيقرّبها الى أنفه يتشمم رائحتها, وقال وهو ينظر الى وريقاتها التي تقطعت بعضها وكأنه يلقي بقسم على نفسه:
– هثبت لك يا بنت عمّي انه اللي بيناتنا مش اسمنا اللي في شهادة الميلاد وبس!!
– يتبع –