ضرب الأمثال في القرآن الكريم أسلوب مميز ومسلك واضح، القصد منه تقريب الحقائق إلى الأذهان، وتوضيح الأفكار المجردة، وجعلها أقرب ما تكون إلى ما هو واقع ومحسوس.
وقد ضرب الله مثلاً لإنفاق الكافرين، فقال: {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون} (آل عمران:117). فهذا مثل من جملة أمثال ضربها الله ليبين حقيقة أعمال الكافرين، وأن أعمالهم لا تعدل في ميزان الله شيئاً.
قال ابن القيم في بيان المراد من هذا المثل: “هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته، فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون به وجه الله، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله، واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام بالزرع الذي زرعه صاحبه، يرجو نفعه وخيره، فأصابته ريح شديدة البرد جداً يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته”.
وذكر الشيخ محمد عبده لفتة مهمة في هذا المثل، حيث اعتبر أن “الريح المهلكة مثال للمال الذي ينفقه الكفار في لذاتهم وجاههم، ونشر سمعتهم، وتأييد كلمتهم، فيصدهم عن سبيل الله، وإن العقول والأخلاق الحسنة التي هي أصل جميع المنافع هي مثال الحرث، أي إن المال الذي ينفقونه هو الذي أفسد أخلاقهم، وأهلك عقولهم بما صرفها عن النظر الصحيح، ولفتها عن التفكر في عواقب الأمور”.
فهذا المثل يبين بطريق الحس والمشاهدة، أن أعمال الكافرين مهما كان ظاهرها الصلاح، فإنها لا قيمة لها عند الله، من جهة أنها أعمال صادرة من أناس كفروا بالله؛ وبالتالي فهي فاقدة لعنصر الإيمان، ولا قيمة لعمل في ميزان الشرع إذا كان فاقداً لهذا العنصر.
وقد أومأ ختام الآية إلى أن سبب إصابة حرث الذين كفروا إنما هو ظلمهم، فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته، فظُلْمُهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها. والله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم، بل هم تسببوا في ذلك؛ إذ لم يؤمنوا؛ لأن الله سبحانه جعل الإيمان شرطاً في قبول الأعمال، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم، لم يكن عقابه بعد ذلك ظلماً لهم.
ومن هنا يتقرر أن لا جزاء على بذل، وأن لا قيمة لعمل إلا إذا ارتبط بمنهج الإيمان، وكان باعثه حب الله وطاعته. هذا ما يفيده هذا المثل القرآني، فلا تبقى بعده كلمة لإنسان، ولا يجادل فيه إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا برهان.
وقد اعتبر الشيخ محمد رضا أن الوصف الذي خُتم به المثل في الآية “يشعر بأن الجوائح قد تنـزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة على ذنوب اقترفوها…ولا يعارض ذلك ما ثبت من الأسباب الطبيعية لها؛ لأنه لا يُستنكَر على البارئ الحكيم، الذي وضع سنن ارتباط الأسباب بالمسببات في عالم الحس، أن يوفق بينها وبين سننه الخفية في إقامة ميزان القسط في البشر لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي يستفيدونها من النظر والتجربة، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحي الإلهي”.
والمتحصل من هذا المثل، أن الذين كفروا قد يَمدُّ لهم الله تعالى من فضله، ويغدق عليهم من نعمه، فينفقون في هذه الدنيا الشيء الكثير على لذائذهم وشهواتهم وعلى بطانتهم وأعوانهم، بل وربما يعطون المحتاجين، أو ينشئون المؤسسات الخيرية التي تخدم مصالحهم وأهدافهم…وهذا الإنفاق بوجوهه كافة لا طائل منه في ميزان العدل الإلهي؛ لأنه صادر من كفار غارقين في كفرهم، أو منافقين متلونين بنفاقهم. وقد جاء في الحديث أن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: (لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، رواه مسلم.