وانحنت لأجلها الذئاب
الفصل الثامن والعشرون ( الجزء الثاني ) :
في منزل تقى عوض الله ،،،
إستندت فردوس على إحدى جارتها لتتمكن من الصعود على الدرج ، وتحملت كل الأوجـــاع التي تفتك برأسها من أجل الوصــول إلى منزلها لتحصل على الشيك النقدي فتتمكن من علاج نفسها …
طرقت الباب بدقات عنيفة بعد أن تعذر عليها فتحه ، وهتفت بصياح :
-افتحوا الباب !
بعد لحظات أزاح عوض قفل المزلاج ، ووقف على عتبة الباب ليرمقها بنظرات ساخطة ..
دفعته بيديها لتلج للداخل وبدت كالمجنونة وهي تسرع في خطواتها لتبحث عن ذلك الشيك
أوصــد عوض الباب ، وتحرك خلفها بخطوات متمهلة ..
ألقت فردوس بمعظم محتويات الكومود على الأرضية ، وقذفت بالبقية على الفراش ، وأخذت تلهث وهي تتسائل بفزع :
-راح فين الشيك ؟ هو فين
راقبها عوض بنظرات إحتقارية ، ثم تسائل بنزق :
-بتدوري على ايه يا فردوس ؟
ردت عليه بصوت محتد وهي تقذف بالأشياء دون إكتراث :
-ملكش دعوة يا عوض ، سيبني في الهم اللي انا فيه
تابع عوض قائلاً بجمــــود واضح :
-اللي بتدوري عليه معايا !
انتبهت هي إلى حديثه الجــــاد ، ورفعت رأسها في إتجاهه ، وانفرجت شفتيها بصدمة جلية ..
لوح عــوض بتلك الورقــة المطوية التي بحوزته ، وحدجها بنظرات جافة وهو يتابع بصوت شبه غاضب :
-هو ده التمن اللي بعتي بنتك بيه ؟
ازدردت ريقها بصعوبة ، وسألته بصوت لاهث :
-انت .. انت خدت الشيك ؟
أمسك عــوض الشيك النقدي بكفيه ، فجحظت فردوس بعينيها ، .. ورغم الآلم الذي يُلهب نظراتها إلا أنه لا يقـــارن بهلعها من إحتمالية تمزيق زوجها له ..
فهتفت متوسلة وهي تشير بكفها :
-هاته يا عوض ، أنا .. أنا محتاجاه أوي ، نظري هايروح لو آآ…
لم يصغِ زوجها إليها ، بل قـــــام بتمزيق الشيك إلى نصفين غير عابئاً بنظراتها المشتعلة ، ولا بتوسلاتها المتواصلة ، ومن ثم مزق النصفين إلى أجزاء صغيرة ، ثم ألقاها في وجهها وهو يضيف بنزق :
-شوفي حاجة تانية تجبي منها فلوس غير روح بنتك !
شهقت فردوس بصراخ غير مصدقة ما فعله تواً ، ولطمت على صدغيها قائلة وهي تتحسر حالها :
-حرام عليك يا عوض ، أنا ضعت خلاص ، واتعميت ، حـــرام .. لييييه كده ؟!
لم تتحمل قدماها الوقوف ، فجثت على ركبتيها ، وأخذت تضرب صدرها ووجهها بصورة هيسترية مثيرة للشفقة ..
ومع هذا حدجها زوجها بنظرات قاسية جافة .. وأردف قائلاً ببرود :
-يعوض عليكي ربنا يا .. يا مرات عم عوض !
……………………..
في مشرحة بورسعيد ،،،،
تحرك أوس بخطى ثقيلة نحـــو ذلك الممر الطويل البـــارد حتى يصل إلى تلك الغرفة شبه المظلمة ليتعرف على ما تبقى من جثمان والده بعد أن جمع أشلائه رجــال المعمل الجنائي .. ومن ثم يقوم بإستلامها ..
ظل طــوال الطريق إلى تلك المحافظة صامتاً لا ينبس بكلمة ..
وجهه متجمداً ، نظراته قاسية ..
ورغم هذا كان يشتعل من الداخـــل .. ولكن لم تكن لديه أي رغبة في البكاء حزناً عليه ..
إجتــــاح عقله سيل هائل من الذكــريات المريرة معه .. نعم فأكثر ما يذكره عنه هو جفائه المستمر ، قسوته في التعامل ، عنجهيته ، تسلطه ، نزواته الماجنة ، ولياليه العابثة ..
مـــر بباله ذكرى ما فعله حينما كان طفلاً صغيراً – لا حـــول له ولا قوة – وأسلمه إلى رفيقه ممدوح ليفعل به ما يشــاء على طريقته الفاجرة ..
طفولة بائسة قضاها في كنفه ، وتبعتها مراهقة عصبية ، ثم سنوات تالية لا يذكر فيها لحظة حنو أبوي واحدة معه ..
توقف عن السير حينما أشــار له رجل ما يرتدي معطفاً أبيض اللون ليدخــل إلى تلك الغرفة التي دون عليها ( المشرحة )
ابتلع ريقه ، وأحس ببرودة رهيبة تجتاح أوصــاله ..
رعشة قوية هزت جسده القوي المتصلب .. ولكن رغم هذا استمر في التحرك ..
دلف إلى الداخل وهو يتوقع الأســوأ ..
حبس أنفاسه ، وحرك رأســه ببطء باحثاً عن ضالته ..
تعلقت أنظاره بذلك الفراش الذي تدلت منه لوحة كرتونية صغيرة كتب عليها اسم ( مهاب الجندي ) ..
خفق قلبه بشـــدة ، ووضع يده على فمه ليمنع أي شهقة تصدر رغماً عنه .. ثم بحركات شبه عاجزة حاول أن يدنو أكثر منه ..
إرتد شبه مذعــــوراً للخلف من هـــول المنظر ، وخـــارت قواه فوراً ، ولم يستطع الوقوف على قدميه حينما إلتقطت عينيه جزءاً صغيراً من بقايا وجــه أبيه .. فأشــاح بوجهه للجانب ، وأغمض عينيه بقوة ..
توقع أن يكون أكثر تحملاً وصلابة .. أن يكون أكثر قسوة وشجاعة ، ويستقبل جثمانه بجمود قاسي .. ولكنها كانت مجرد حصون واهية .. إنهارت فوراً مع رؤيته لهذا المشهد المفزع ..
بكى رغماً عنه حزناً على حــاله .. وغطا بكفه وجهه ، وشعر بالغثيان الشديد ، وصعوبة في التنفس ..
فركض مسرعاً للخـــارج ليلتقط أنفاسه ..
أسنده أحد الأطباء ، وأشفق عليه المتواجدين بالممـــر ..
تبادلوا الأحاديث فيما بينهم ، ولكنه لم يكن مصغياً ولا منتبهاً إلى أي كلمة تقــال ..
هتف أحد محاميه قائلاً بجدية :
-البقاء لله يا أوس باشا ! احنا هانخلص لحضرتك الإجراءات عشان تصريح الدفن وآآ….
لم ينتبه له أيضــاً ، بل دفعه بقبضته ، وخطى بخطوات سريعة أقرب للركض لينطلق مبتعداً عن الجميع وهو يحاول السيطرة على حـــــاله .. فالفاجعة أكبر من قدرته على التحمل …..
……………………..
في منزل أوس الجديد ،،،
ســـردت تهاني لتقى ما فعله أوس معها ، وتعمدت أن تحذف الجزء المتعلق بوالدتها فردوس حتى لا تشعرها بإهانته إياها حتى وإن كانت مذنبة .. فقد أرادت أن تكون العلاقات بينهما ودية ولا تتضمن أي مشاحنات أو ضغائن بسبب أفعال غيرها المشينة ….
أنصت تقى إليها بإهتمام كبير ، وبدت راضية للغاية وهي تستشعر مشاعر خالتها المتحمسة وهي تتحدث عن صفح ابنها لها ومناداتها إياه بـ ( ماما ) ..
لمعت عينيها عفوياً ، وتجمعت العبرات في طرفيها ..
فهي تكاد لا تصدق ذلك التغيير الكبير والتحول الهائل في حياة أشد الرجـــال قســوة وأكثرهم جبروتاً .. بينما أكملت تهاني بصوت مختنق :
-سنين وأنا مستنية أسمع الكلمة دي بوداني قبل ما أموت ، سبحان الله ربنا نولهاني ، ورضاني بإبني ! اللهم لك الحمد والشكر ..!
نظرت لها تقى وتلك الإبتسامة الرقيقة مرتسمة على ثغرها .. ومسحت بأناملها عبراتها ..
تابعت تهاني قائلة برجــاء :
-انا عاوزاكي يا بنتي تديله فرصة !
ضيقت تقى عينيها ، ونظرت لها بإهتمام ، فتابعت خالتها بنبرة خافتة :
-صدقيني هو اتغير فعلاً ومش عشاني ، لأ .. عشانك انتي .. !!
قرأت تهاني في عيني ابنة أختها الإستغراب ، فهزت رأسها وهي تتابع بثقة :
-ايوه ، انتي الوحيدة اللي خليتي أوس الجندي يبقى عنده قلب ويرجع يحس ويحب من جديد !
توردت وجنتي تقى وهي تصغي إلى تلك العبارات التي تمسها ..
حدقت تهاني فيها بنظرات عميقة ، وأضافت بنبرة عذبة وهي تحتضن كف تقى براحتيها :
-أوس بيحبك أكتر من روحه ، إنتي .. انتي لو تشوفيه وهو بيتكلم عنك ازاي ، هاتحسي بأد ايه هو بيعشقك ، بيتمنى يشوفك بس راضية عنه ومبسوطة معاه !
إزدردت تقى ريقها بتوتر ، وشـــردت مخيلتها في ومضـــات سريعة من لحظاته الحنونة معها ..
ضغطت تهاني على شفتيها لتقول بحذر وقد تحولت نظراتها للجدية :
-أنا عارفة إنها تجربة مش سهلة عليكم ، واللي مريتوا بيه مش هين !
بدى الإرتباك والتوتر واضحاً على تعابير وجـــه ابنة أختها ، فأكملت بإحتراز :
-بس .. بس إديله فرصة يقرب منك بجد !
ضغطت على كفها بأصابعها ، ونظرت له برجاء ، وهمست متوسلة :
-سامحيه يا تقى عشان ترتاحي !
ثم وضعت إصبعها بالقرب من صدرها ، وأضافت بنبرة إستعطاف :
-سامحيه بقلبك الطيب ده ! وإنسي اللي حصل وكملي حياتك معاه ، إنتو .. إنتو اتخلقتوا لبعض !
أسبلت تقى عينيها الدامعتين للأسفل .. ووضعت إصبعها على طرف أنفها ، وحــاولت أن تمنع نفسها من البكاء .. وهمست بصوت مختنق للغاية :
-يا ريت أقدر أعمل ده !
لفت تهاني ذراعها حول ظهرها ، واحتضنتها وهي تقول بإصرار :
-هاتقدري يا بنتي ، جربي ومش هاتندمي ، لو فضلتي واقفة عند الماضي كتير عمرك ما هاتتخطي اللي حصل ، إكسري الحاجز اللي واقف بينكم ، وعيشي حياتك .. وسامحي ، ده ربنا بيغفر ، إحنا يا عباده مش هانغفر ؟!
هزت رأسها وهي تردد بإستسلام :
-هـ.. هحــاول
ثم إنتبهت كلتاهما إلى صوت قرع الجرس ، فنهضت تقى عن الأريكة ، وأشــارت لخالتها قائلة :
-أنا .. أنا داخلة جوا
هتفت المدبرة عفاف بجدية وهي تتجه نحو الباب :
-أنا هاشوف مين ، خليكوا مرتاحين
ردت عليها تهاني بإمتنان :
-طيب .. ربنا يكرمك !
فتحت عفـــاف الباب ، وابتسمت لعدي وهو يدلف للداخل ، وأردفت قائلة بترحيب :
-اتفضل يا عدي باشا
تحركت تهاني نحوه وعلى ثغرها إبتسامة عريضة ، وهتفت بحماس :
-ازيك يا بني ، تعالى ، البيت منور بوجودك فيه
لاحظت تعابير الحزن المكتسية على جميع قسمات وجهه ، ونظراته القاتمة ، وعبثه بسلسلة مفاتيحه بطريقة عصبية ، فســألته بتوجس :
-مالك ؟ هو .. هو في حاجة حصلت ؟
رد عليها بنبرة منزعجة للغاية وهو ينظر لها بجمود :
-مـ.. مهاب الجندي مــات !
برزت عيني تهاني بصدمة كبيرة ، وشهقت بذهــول :
-إييييه مــ.. مات !!
تابع قائلاً بنفس النبرة المنزعجة :
-أوس طلب مني ما أبلغش حــد بالخبر ده ، بس هو اتعرف ، واتنشر على معظم المواقع !
تنفست بصعوبة وهي تردد بلا وعــي :
-مــ.. مات من .. من غير ما يتحاسب على اللي عمله ، من غير ما آآ…
قاطعها عدي قائلاً بجدية :
-أنا عاوز أبلغ ليــان بالخبر ، وحضرتك بلغي تقى !
جلست تهاني على الأريكة ، فهي لم تستوعب الصدمة بعد ، وغمغمت مع نفسها :
-طب .. طب إزاي ؟ يعني مات كده فجــأة ، حكمتك يا رب ، لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله !
تحرك عــدي في إتجــاه غرفة ليـــان ، وطرق على الباب بخفة ، ولكنه لم يستمع إلى أي صــوت ، ففتحه بحذر ، وولج إلى الداخل ليجدها نائمة في سبات عميق ، فآلمه أن يوقظها ويبلغها بهذا الخبر المؤسف ، هو يعلم أن فراقه ربما لن يؤثر معها ، ولكن الفاجعة في حد ذاتها محزنة بالتأكيد ..
لذا أغلق الباب بهدوء .. وعـــاد إلى تهاني ليجد تقى جالسة إلى جوارها وفي حــــالة صدمة هي الأخــرى ..
أشـــار بإصبعه للخلف وهو يقول بصوت آجش :
-ليان نايمة ، وأنا مش حابب أصحيها على خبر زي ده !
رفعت تهاني بصرها ناحيته ،وســألته بتلهف :
-طب وأوس فين دلوقتي ؟
أجابها بتنهيدة عميقة :
-راح يستلم جثته من المشرحة في بورسعيد !
وضعت تقى يدها على فمها مصدومة مما تسمعه ، بينما شهقت تهاني بفزع ، وتسائلت بإندهاش :
-ايييه ؟! وإيه اللي وداه هناك كده ؟
تهدل كتفيه مجيباً إياها بقلق :
-مش عارف لسه ، بس أنا بأطلبه وهو مش بيرد عليا !
ضربت تهاني صدرها بكفها ، وهمست بحزن :
-قلبي معاك يا بني !
أضــاف عدي قائلاً وهو يزفر بضيق :
-عامة أنا موجود ولو عوزتوا أي حاجة كلموني ، بس يا ريت تبلغوا ليان الخبر بهدوء ، مش عاوزين انفعال !
أومـــأت برأسها إيجاباً وهي تردد :
-حاضر يا بني ، ربنا معانا كلنا !
-عن اذنكم
قالها عدي وهو يتجـــه نحو باب المنزل ..
ضمت تقى قبضتي يدها معاً وأسندتهما على فمها ، وظلت تهــز جسدها بتوتر كبير ..
ولكن نوعاً ما أحست بالإرتيـــاح لإنتهاء ذلك الكابوس الذي أرق منامها لليالٍ طوال وهدد حياة جنينها بالقتل ..
……………………..
مضت عــــدة ســاعات والجميع في منزل أوس ينتظر قدومـــه للإطمئنان عليه وتعزيته .. ولكنه لم يظهر بعد ، ولم يجبْ على اتصــالات أي شخص ..
توجست تهاني أن يكون قد أصابه مكروه ما ، وانقبض قلبها من الخوف عليه ..
بكت ليـــان في صمت دون أن تصدر أي جلبة بعد تلقيها خبر وفـــاة أبيها الزائف مهاب .. وظلت قابعة في غرفتها رافضة للخروج أو الجلوس مع أي أحـــد ..
لم تتخيل أنه قد رحل بالفعل ، وهي التي واجهته قبل عدة ساعات وتحدته بشراسة لم تكن عليها ..
حزنت على فراقــه رغم حنقها منه ..
دلف عدي إلى داخــل غرفتها لمواساتها ، فوجدها ضامة ركبتيها إلى صدرها ، وعاقدة لكفيها معاً أمام ركبتيها .. وفي حالة بكاء شديد ..
أشفق عليها ، وإعتصر قلبه آلماً على حالتها ..
اقترب من فراشها ، وجلس على طرفه قبالتها ، وطالعها بنظرات حانية ..
لم تنظر هي نحوه ، وظلت محدقة أمامها بنظرات خــاوية ..
ضغط على شفتيه ، وبحث عن كلمات معزية ليبدأ الحديث معها ، ولكنه تفاجيء بها تردد بأسى :
-كان بيحبني مع إنه مش بابي ! بس .. بس كان بيحبني !
مـــد عدي كفه ليتحسس يديها المعقودتين ، وهمس بحذر :
-كلنا بنحبك يا ليان !
أغمضت عينيها لتنهمر العبرات بغزارة على وجنتيها ، فدنا أكثر منها ، ولف ذراعيه حولها ليحاوطها ، وضمها إلى صدره ، وتابع بصوت خفيض :
-عيطي يا حبيبتي ، وطلعي اللي جواكي ، أنا جمبك
أسندت رأسها على كتفه ، وبكت بحرقـــة .. فربت هو على ظهرها برفق ، وقبلها في جبينها قبلة عميقة تعاطفاً معها .. وبقي معها إلى أن إستكان جسدها وغفت على صدره ، فقام بإراحة جسدها على الفراش ، وتغطيتها ، ثم مسح العبرات الباقية من على وجنتيها .. ورمقها بنظرات أخيرة حزينة قبل أن يتركها وينصـــرف …..
……………………..
مــــرت ساعات أخــرى ولم يحضر أوس بعد لمنزله ..
ولجت تهاني إلى غرفة ليـــان لتكون إلى جوارها ، وفضلت تقى أن تظل مستيقظة لتنتظره ..
قــاومت سلطان النوم قدر إستطاعتها ، وتحركت كثيراً على الأريكة ليظل جسدها منتبهاً ..
وحينما أوشك جفناها على الإستسلام له ، إنتبهت إلى صوت فتح الباب ، ففتحت عينيها سريعاً ، وإعتدلت في نومتها ، وإشرأبت بعنقها لترى القــادم فكان هـــو ..
كان أوس في حـــالة بائسة للغاية .. به حزن عميق رغم جمود تعابير وجهه ..
نهضت بهدوء من على الأريكة ، واقتربت منه وهي تضغط على شفتيها بتوتر ، ثم ســألته بصوت هامس رقيق :
-إنت كويس ؟
طالعها بنظرات غريبة .. وتحرك مبتعداً عنها ليجلس على الأريكة ..
ثم نكس رأســه للأسفل ، وأخفض نظراته ليحدق في قدميه ..
شعرت تقى بغصة عالقة في حلقها ، فإبتلعتها بصعوبة ، وســارت بخطى متريثة نحوه .. ثم جلست إلى جواره .. وراقبته بدقــة ..
لم ينبس أوس ببنت شفة ، وظل على تلك الوضعية لعدة لحظات .. ولكنها إستمعت إلى صوت تنهيداته العميقة والمطولة ، فأحست بما يعانيه رغم عدم بوحــه به ..
هداها عقلها إلى صــرف تفكيره عن تلك الفاجعة بوضع فردتي حذاء الرضيع أمامه على الطاولة الصغيرة التي تقابل الأريكة ..
وبالفعل رفــع أوس بصره ليحدق مطولاً بهما ..
همست له بتلعثم مواسية إياه :
-البقاء لله ، كلنا هنموت في الأخــر ، فـ آآ.. مـ.. ماتزعلش من اللي حصله ! وإدعيله بالرحمة !
إلتفت برأســـه نحوها ، ورمقها بنظرات دامعة ، واستطرد حديثه قائلاً بصوت مختنق :
-إنتي عارفة هو مات إزاي يا تقى ؟
هزت رأسها قائلة بإعتراض :
-مش عاوزة أعرف ، بس .. بس مايجوزش عليه إلا الرحمة الوقتي ! فإدعيله إن ربنا يغفرله ويرحمه !
إلتوى فمه ليقول بتهكم صــارخ :
-أدعيله ؟ ده كان عاوز آآ…
قاطعته بوضــع إصبعها على فمه ، وأضافت بصوت حنون وهي ترمقه بنظرات رقيقة :
-شششش، ماتقولش ، الكلام مش هايفرق الوقتي ، هو بين إيدين ربنا !
أمسك أوس بكفها وقبل راحته بحرارة كبيرة ، وإستند بصدغه عليه ، وهمس لها بنبرة مليئة بالشجن :
-إنتي .. إنتي طيبة أوي ، وماتستهليش اللي حصلك مني أو من غيري !
توقف للحظة قبل أن يتابع بنبرة باكية وهو يطلعها بعينين حمراوتين :
-إحنا .. اللي زينا معروف نهايته ، وماينفعش نكون آآ…
طوقت تقى ظهره بذراعها ، وقاطعته بجدية :
-شششش .. ماتقولش الكلام ده
لف أوس ذراعيه حولها واحتضنها بشدة ، وأسند رقبته على كتفها ، وتوسلها برجـــاء شديد :
-ماتسبنيش يا تقى ، ماتبعديش عني ، مش عاوز أخسرك في يوم من الأيام !
إحتضنته هي الأخــرى بعاطفة قوية إستشعرها بجسده ، وبقلبه ، وبروحه ، وبكل ذرة في كيانه .. وهمست له بصدق :
-أنا .. أنا هنا جمبك !
أخفض نبرة صوته وهو يقول بصوته المنتحب :
-بأحبك يا تقى ، إنتي أحسن حاجة حصلتلي في حياتي ! متتخليش عني وأنا محتاجك !
زادت نبرته إختناقاً وهو يتابع :
-أنا .. أنا ممكن أستحمل أي حاجة ، بس خسارتك ، أو خسارة حتة منك ممكن تخليني .. آآ.. أموت !
أخــذ نفساً عميقاً ، وبللت عبراته كتفها ، وهمس لها بعاطفة جياشة :
-بأحبك يا تقى ، وماحبتش حد قبلك ولا عاوز أحب حد بعدك !
إرتعش جسدها على إثر كلماته الصادقة ، وإمتزجت مشاعره المتأججة مع روحها النقية التي إحتوته .. فأغمضت عينيها بقــوة ، وأخــذت نفساً عميقاً حبسته في صدرها للحظات قبل أن تطلقه ، ثم نطقت بإحساس صــادق ، ونابع من أعمـــاق قلبها قبل روحها :
-و.. وأنا .. وأنا كمان بـ.. بأحبك ……………………..