وانحنت لأجلها الذئاب
الفصل الثالث والثلاثون :
(( الأخير – الجزء الثاني ))
انتهى كلاً من أوس وتقى من أداء مناسك العمرة كاملة ، وتحلل كلاهما من الإحرام .. ثم عـــادا إلى الفندق الذي يمكثان به ..
بدى على وجهها الحزن ، وترقرقت العبرات في عينيها ، فقد
أرادت أن تمكث ليلة إضافية ، فالرحيل عن تلك البقعة الطاهرة أضنى قلبها ..
لم يدخـــر أوس وسعه من أجل إرضائها ، فلبى لها أمنيتها على الفور ، وبقيا ليومين إضافيين ..
في حين إستقل والديها الطائرة عائدين إلى القاهـــرة …
وقفت تقى أمـــام الحائط الزجاجي المطل على الحرم المكي وهي تتطلع بسعادة على ذلك المنظر المهيب ..
تنهدت في إرتيـــاح بعد أن عرف فؤادها السلام والسكينة .. وإستندت بكفيها عليه وهي تخرج تنهيدات حارة من صدرها ..
أشعل أوس سيجارته ليدخنها ، وإنشغل بمتابعة أعماله في القاهرة من خلال حاسوبه الشخصي ..
لم ينتبه لفرطه في التدخين ، فإمتلأت الغرفة بدخـــان سجائره المتتالية ..
إحتقن وجـــه تقى نوعاً ما ، وشعرت بإختناقها من كثرة إستنشاقها لذلك الدخــان ..
عجزت هي عن التنفس بصورة طبيعية ، فإلتفتت برأسها إلى أوس ، ورأته منكباً على حاسوبه ..
أصابها دوار شديد ، وبدأت تسعل بخفوت ، وحاولت ألا تصدر جلبة .. لكنها لم تستطع ، فهتفت بصعوبة :
-آآ.. أوس !
-ايوه يا حبيبتي
قالها أوس وهو مسلط أنظاره على شاشة حاسوبه ..
دنت منه تقى ، ومدت يدها إليه وتابعت بصعوبة بالغة :
-أنا .. أنا بأتخنق !
رفع رأســه نحوها ، ونظر إلى حالتها بذعــر بائن في نظراته ، ثم هب واقفاً من على الفراش بعد أن ألقى بحاسوبه ، وركض نحوها صائحاً بخوف :
-تقى !
خــــارت قواها ، ولم تستطع ساقيها حملها ، ولكن كان أوس الأسرع في الوصــول إليها ، وأسندها بذراعيه ، ثم إنحنى ليحملها ، ووضعها برفق على الفراش ..
سألها بهلع وهو يمسح على وجهها بكفه :
-تقى مالك ؟ ردي عليا ! تقـــى !
أجابته بصوت مختنق ومتقطع وهي تسعل وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة :
-مش .. مش قادرة من ..دخـــان .. الـ.. السجاير !
هتف بفــــزع بائن في نبرته :
-أنا أسف يا حبيبتي ، مخدتش بالي والله !
غابت هي عن الوعي ، فصــرخ بذعــر أكبر وهو يحاول إفاقتها:
– تقى ردي عليا ، تقى !
صـــاح هو مستغيثاً بمن ينجده ، وبالفعل تم الإتصــال بالإسعاف القريب ، وقـــام المسعفون بإفاقتها ، ثم نُقلت إلى المشفى القريب للإطمئنان على حالتها الصحية …
لم يشعر أوس بفداحة الأمــر إلا حينما رأها تعاني بسببه من جديد …
وضــع يده على فمه ليكتم شهقاته ، واستجمع رباطة جأشه ليظل متماسكاً أمـــام الجميع ..
حبس أنفاسه مترقباً خروج الطبيب في أي لحظة من الغرفة ، وما إن رأه يخرج منها حتى إندفع نحوه ، وســأله بتلهف :
-مراتي عاملة إيه ؟
أجابه الطبيب بهدوء :
-هي الوقتي أحسن ، اطمن
ســـأله بنبرة أكثر تلهفاً وقد زاد لمعان عينيه :
-طب أقدر أشوفها ؟
رد عليه بإقتضاب :
-اه ، شوية وهتتنقل على غرفة عادية ، وتقدر تشوفها هناك !
تنفس أوس الصعداء حينما سمح له الطبيب بالدخول لرؤيتها ، فبكى عفوياً حينما رأها ممددة أمامه ..
اقترب منها بخطى بطيئة ، وتسارعت دقات قلبه حتى كادت أن تصم آذانه ..
وقف قبالتها ، ومرر عينيه عليها ، ثم مــد كفه ليمسك بكفها ، ورفعه إلى فمه ليقبله نادماً ..
تلمس بيده الأخرى وجهها برفق شديد ، وانحنى ليقبل جبينها ، وهمس بشجن :
-سامحيني يا حبيبتي ، أنا السبب
بللت عبراته صدغيه وهو يتابع بآسى :
-أوعدك مش هادخن تاني ، بس قومي وكلميني ، تقى !
فتحت عينيها بتثاقل ، وســألته بنبرة واهنة :
-هو .. هو حصل ايه ؟
احنى جذعه عليها ، وإحتضنها بشغف ، وهمس بصوت باكي وهو يقبل كفها بأسف :
-بأحبك ، متعمليش فيا كده ، قوليلي بتكرهي السجاير بس متخوفنيش عليكي ، أنا روحي كانت هاتضيع مني !
ردت عليه بوهــــن :
-حـ.. حاضر
بللت عبراته كفها الذي يحتضنه ، ثم قبله مطولاً .. ورمقها بنظرات نـــادمة على فعلته الحمقاء …
……………………..
ومن وقتها أقلع أوس عن التدخين ، ولم تلمس شفتيه أي سيجارة ، وحَــذَرَ على نفسه التواجد في أي مكان يجلس به أي مدخن ، وبـــات معروفاً عنه رفضــه التام للتدخين ســـواء في أي إجتماع أو إتفاق يحضره .. ووضع قـــانوناً خاصاً به في جميع شركاته يغرم مادياً من يدخن في مؤسسته .. وحرص جميع العاملين معه على الإلتزام بـــه..
كما إهتم أوس بحضور المتابعة الدورية للحمل ، ولم يفوت أي جلسة كشف تخص تقى ، فكان على إطلاع أولاً بــأول بنمو طفلته في أحشائها ..
غمـــرت السعادة قلب تقى وهي ترى زوجها يشاركها أبسط الأمــور ..
و حينما كانت تئن ليلاً من التعب والإرهـــاق ، كان يظل إلى جوارها مستيقظاً ، يمســد على رأســها ، ويدلك كتفيها حتى يرتخي جسدها ، وتغفو على صدره ، فيعدل من نومتها ، ويدثرها جيداً .. وينام إلى جوارها وهو متأملاً وجهها البشوش …..
لم يدخـــر وسعه في تلبية كل رغباتها – حتى الغريب منها ، وظل مرافقاً لها وحريصاً على صحتها ..
……………………..
بعد مـــرور ثلاثة أشهر ،،،
عند قصـــر عائلة الجندي سابقاً ،،،
أصــــر أوس على حضـــور زوجته إفتتاح دار رعاية المسنين الجديدة ، ولم يخبرها عن إسمها ، والذي فضل أن يكون مفاجــأة أخــرى لها …
ترجلت تقى من السيارة وهي مستندة على يد زوجها ، ورمقته بنظرات ناعمة وهي تتحرك معه للأمـــام ..
مسح أوس على كفها بأنامله وهو يتأبط ذراعها ، وخطى ببطء معها ، فقد كانت مرهقــة من الحمل ..
إبتسمت في طريقها للجميع ممن تعرفهم أو لا .. وجابت بعينيها بنظرات خاطفة المكان من حولها ..
تعجبت هي من تغطية جميع لافتــات الدار .. ولكنها لم تتسائل عن السبب وإكتفت بمتابعة التغيير الجذري الذي تم إحداثه في حديقة القصــر الخارجية ..
ومـــر ببالها ومضـــات سريعة عن ذلك المكان ..
من قدومها للعمل فيه جبراً ، ومن إصابتها في قدمها وتحملها للآلم النفسي قبل الجسدي ..
ثم فرارها منه بمساعدة المدبرة عفــاف ..
أدارت رأسها في إتجـــاه أوس ، ورمقته بنظرات مطولة متأملة فيها ملامح وجهه المرتخية ، وإبتســامته الآســرة ..
نعم لقد تغير تماماً مثل القصــر ، و من أجلها فقط فعل المستحيل لتصفح عنه وتغفر له ، وأصبح شخصاً جديداً فأحبته بصــدق ، وعشقته بجوارحها ..
أفاقت من شرودها على صوته الهاديء :
-بصي هناك يا حبيبتي !
رفعت بصرها إلى حيث أشــار بعينيه ، فوجدت غطاءاً كبيراً ينزاح ببطء عن اللافتة ، فراقبته بعدم إهتمام ..
ثوانٍ قليلة مرت قبل أن يُكشف عن إسم الدار ..
رمشت بعينيها غير مصدقة وهي تقرأه بصوت خافت يحمل الفرحة :
-دار التقى لرعــاية المسنين !
إلتفتت نحو أوس ، وهتفت بسعادة :
-دي .. دي على اسمي !
أجابها مبتسماً وهو يرمقها بنظراته العاشقة :
-طبعاً ، بس المرادي مش مني ، دي من ماما
إحتضنت تهاني تقــى بحنان ، وقبلتها من وجنتها بعاطفة قوية ثم أضافت بمرح :
-دي أقل حاجة أقدمهالك يا بنتي على اللي عملتيه معايا ومع ابني !
أدمعت عيني تقى ، وهتفت بنبرة ناعمة :
-أنا .. أنا مش عارفة أقول ايه ، ده كتير والله !
هتفت ليـــان بحمـــاس وهي تشير بيدها :
-يالا يا مامي عشان تقصي الشريط
هزت تهاني رأسها معترضة ، وقالت بإصرار :
-مش لوحدي ، ابني معايا !
ابتسم أوس مجاملاً ، وتحرك خطوة للأمـــام ليقف إلى جوارها ، وحدق فيها مبتسماً .. ثم وضع الاثنين كفيهما معاً ليقصا الشريط الورقــي ، فهتف عدي معلناً بصياح :
-مبروووووووك !
إلتفت أوس بجسده ناحية تقى ، ثم إحتضنها
تعالت التصفيقات من الحاضرين ، وولج الجميع إلى الداخل ليروا القصر بعد تعديله ..
إنبهر الحاضرين بتهيئة المكان ليصبح مركزاً لائقاً بكبار السن ، ومزوداً بأحدث وســائل الرعاية والإهتمام ..
وتم تخصيص جانب كبير فيه لرعاية غير القادرين منهم بالمجــــان …
……………………..
بعد مـــــرور ثلاثة أشهر ،،،،
بعد مجهود مضني من محامي ناريمان ، ومساعدة جمعية النساء الشهيرة تم تبرئتها من تهمة قتل ممدوح ، وإعتراف المحامي الخاص بمهاب – نصيف – بارتكاب موكله الراحل لتلك الجريمة النكراء …
كما حكم عليها بالسجن في قضية التزوير في أوراق رسمية ، وتغير النسب ، والتلاعب في مستندات طبية ، و التي أقيمت ضدها من أوس الجندي ، ورُفض الطلب الذي تقدمت به للحصـــول على إفراج صحي ..
وأقـــام أيضاً دعوة لرد شرف والدته وتبرئة اسمها من أي تهم سابقة قد تم تلفيقها لها خاصة وأن دلائل برائتها كانت بحوزته .. فإستعان بها في تلك القضية ..
……………………..
في منزل أوس الجديد ،،،،
عقـــد أوس رابطة عنقه ، ومشط شعره بالفرشـــاة ، ثم نشر عطره على قميصه ، وإلتفت برأســه ناحية تقى التي كانت تقف على أعتاب باب المرحــاض وهي ممسكة بأسفل بطنها ..
تأملها أوس بقلق ، وسألها بجدية :
-انتي تمام ؟
أومـــأت برأسها وهي تجيبه بوهن :
-أهـــا
رمقها أوس بنظرات متفحصة وهو يقول :
-أنا حاسس إنك هاتعمليها وتولدي
هزت رأسها نافية مجيبة إياه بخفوت :
-لأ .. لســه بدري !
ضغط على شفتيه ليقول بإصرار :
-تقــى ، شكلك بيقول كده !!
ابتسمت له إبتسامة باهتة وهي ترد :
-صدقني أنا كويسة !
تنهد بصوت مسموع ، وأضــاف قائلاً بجدية :
-اوكي .. أنا هاكمل لبسي وهاخلص الاجتماع اللي عندي وأجيلك !
ضغطت تقى على شفتيها بقوة وهي تجيبه :
-ماشي
أضــاف أوس قائلاً بصوت جـــاد :
-تقى لو عوزتي حاجة اتصلي بيا على طول وهتلاقيني عندك !
ردت عليه بنبرة شبه متآلمة بعد أن اعتصر الآلم بطنها :
-حاضر ، متقلقش عليا ، أنا معايا عفاف وماريا
تابع بجدية وهو يرمقها بنظراته الدقيقة :
-برضوه ، ده مايغنيش عني
-أكيد
شعورت هي بوخزات رهيبة وحـــادة تجتـــاح أسفل بطنها ، وضربات متلاحقة في ظهرها ، وجاهدت لتتحملها ، ولكنها فاقت قدرتها، فصاحت صارخة بآلم كبير :
-آآآآآه !
ركض أوس ناحيتها ، وأسندها بذراعيه ، وســألها بقلق :
-تقى !
ضغطت هي على ساعده ، وبكت مستغيثة :
-مش قـــادرة ، الحقني !
رد عليها أوس بتوبيخ قليل :
-قولتلك من الأول ، إنتي شكلك بتولدي
صاحت فيه بإنفعال وهي تغمض عينيها بقوة :
-اتصرف ، آآآه !!!!
تسائل أوس بحيرة وهو يتلفت حـــوله :
-الشنطة بتاعتك فين ، أنا مجهزها بنفسي !
ردت عليه بصوت متآلم وهي تصرخ :
-معرفش ، آآآه ، الحقني بسرعة
هتف قائلاً بنبرة مرتفعة ، وهو يميل بجسده للأسفل ليحمل زوجته :
-حاضر، يا عفــــاف ، تعالي بسرعة ، تقى بتولد
ردت عليه عفــــاف قائلة بتلهف :
-حاضر يا باشا ، كل حاجة جاهزة ، اطمن !
……………………..
في العيادة النسائية ،،،،
أوصــــل أوس زوجته إلى عيادة الطبيبة بارسينيا ، حيث تم الإتفاق على أن تلد رضيعتها هناك .. وبالفعل وضعها على الناقلة الطبية ، وهتف بصياح :
-بســرعة نادوا على د. بارسينيا ، أنا بأطلبها من بدري ومش بترد ، تقـــى بتولد !
أجابته الممرضة بهدوء حذر :
-للأسف د. بارسينيا سافرت لمؤتمر آآ….
قاطعها أوس بإنفعال واضح :
-إزاي تسافر ، احنا متفقين معاها ؟!
-آآآه ، مش قــادرة
قالتها تقـــى بصوت متشنج وهي تحاول كتم آهاتها …
انفعل أوس بغضب أشــرس قائلاً :
-هو ده ينفع ، هي معندهاش تقدير للمسؤلية !
ردت عليه الممرضة بنبرة هـــادئة وهي تشير بإصبعها :
-يا فندم الموضوع جــه مفاجيء ، بس اطمن هي مرتبة مع الدكتور مارجريتا هي دكتورة أجنبية بس ممتازة ، وهتتولى كل حاجة هنا
صـــاح بها بصوت هـــادر وقد إحتقنت نظراته :
-طب هي فين دي كمان ؟
-موجودة يا فندم
قالتها الممرضة بجدية بالغة ، ثم دفعت الناقلة بمعاونة زميلاتها إلى داخــل غرفة ما جانبية لتجهيز تقــى إلى العمليات ..
تعذر على الطبيبة مارجريتا إيلاد الرضيعة بصورة طبيعية لتعسرهــا ، فلجــأت إلى استخدام عملية الولادة القيصرية … ورفضت طلب أوس بالحضور ومشاركة زوجته لحظة ميلاد طفلته ..
وقف مترقباً بالخــارج ، ولكن علق قلبه وعقله وروحـــه بالداخــل ..
مرت عليه الدقائق وكأنها أدهــر ..
وصل إلى العيادة عدي ومعه ليـــان ، وركضت الأخيرة في إتجاه شقيقته وهي تســأله بتلهف :
-ايه الأخبار يا أوس ؟ تقى ولدت ؟
رد عليها بنبرة قلقة وأنظاره مسلطة على باب غرفة العمليات :
-مش عارف لسه ، هي موجودة جــوا
همست لها ليان وهي تضغط على كتفه بقبضتها :
-ربنا معاها
مــازحه عدي قائلاً بهدوء :
-اجمد يا باشا ! هي مش أول واحدة بتولد ، شعب مصر كله جرب الحكاية دي
لوى أوس فمه بضيق ، ونفـــخ بصوت مسموع .. فأدرك عدي أن رفيقه ليس في حالة مزاجية جيدة تسمح بالمزاح …
ظل أوس يجوب الرواق ذهاباً وإياباً وهو يدعو الله في نفسه أن تنجو زوجته وطفلته ..
بعد لحظات إنضمت إليهم تهاني وبصحبتها عـــوض وهو ممسك بزوجته فردوس ..
أجلست تهاني فردوس على المقعد القريب ، ثم اتجهت ناحية ابنها ، وســألته بإهتمام كبير :
-طمني يا بني على تقى !
أجابها بنبرة شبه خائفة :
-معرفش أي حاجة ، بس مش مرتاح
ربتت على ظهره ، وضغطت على شفتيها قائلة بحذر :
-اهدى يا بني، وإن شــاء الله خير
أسند أوس كفه على الحائط الملاصق للباب ، وضرب بيده عليه عدة مــرات .. لم ينتبه هو إلى أي أحاديث جانبية ، ولم يشــارك التعليق في أي شيء يُسئل عنه ..
وفجـــأة إنتبهت كافة حواســـه إلى تلك الصرخة الصغيرة التي إختطفت قلبه قبل عقله .. فأدار رأســـه ناحية الباب ، وأحس بإضطراب جلي يسيطر على كافة أعضائه ..وإستشعــر بقلبه تلك النبضات التي أعلنت رسمياً عن ميلاد أحب الأشخــاص إليه ..
تعجبت تهاني مما حدث لإبنها ، وســأله بإستغراب :
-خير يا بني في ايه ؟
رد عليها بصوت لاهث :
-سمعتها يا ماما ، تقى ولدت !!!
هزت والدته كتفيها وهي تجيبه بفتور :
-بس إحنا مسمعناش حاجة ، تلاقيك بس آآ…
قاطعها بإصــرار جلي وهو يهز رأســه معترضاً :
-أنا متأكد من اللي بأقوله ، بنتي جت على الدنيا !
وما هي إلا دقائق أخـــرى حتى خرجت الطبيبة مارجريتا من غرفة العمليات لتطمئن الجميع وعلى ثغرها إبتسامة ودودة ، فســألها أوس بتلهف :
-تقى ولدت ؟
هزت رأسها بعدم فهم ، فســألها مجدداً باللغة الإنجليزية ، فأجابته بنبرة هـــادئة :
-Yes, and you can see her after while ( نعم ، ويمكن أن تراها بعد لحظات )
سألها بصوت متقطع وهو يرمقها بنظرات شبه متوترة :
– And what about my baby ?( طب .. وآآ.. وبنتي )
ردت عليه بنبرة مطمئنة وهي ترسم تلك الإبتسامة اللطيفة على ثغرها :
-She’s fine .. you can see her too ( بخير ، لحظات وهاتكون معاها ) !!
أحتضنت تهاني ابنها بعد أن أبلغ من حوله بميلاد رضيعته ، وهنأته قائلة :
-مبرووووك يا بني ، تتربى في عزك إن شــاء الله
اقترب منه عدي وصافحه وهو يقول بحماس :
-مبروك يا أوس !
هتفت ليـــان بصياح وهي تقفز في مكانها :
-واو ، بقيت أنطي !
اقترب عــوض هو الأخـــر من أوس ، وأردف قائلاً بصوت خافت :
-حمدلله على سلامتها ، ربنا يحفظهوملك يا رب
رد هو على الجميع بكلمات مقتضبة .. فعقله وقلبه مشغولان بزوجته وطفلته الرضيعة ..
حضرت ممرضــة ما إليه ، وأشــارت له بيدها وهي تقول بهدوء :
-حضرتك تقدر تشوف المولودة الوقتي
وبالفعل ســـار أوس بخطى سريعة خلفها ، ونبضاته تتســارع مع أنفاسه تلهفاً لرؤية ثمرة حبه والتي جمعت بينهما بعد وقت طويل من المعاناة والشقاء …
تملكه القلق الممزوج بالخوف وهو يدلف إلى داخل تلك الغرفة الصغيرة ذات اللون الوردي ، وإستمع إلى أنين ضعيف ينبعث من فراش صغير يتوسط الغرفة ..
إزدرد ريقــه بإرتبــاك كبير ، وبحذر شديد دنــا من الفراش ..
حبس أنفاســـه وهو يسلط أنظاره على ذلك الملاك الغافل ..
إنها لحظة لا توصف بالنسبة له ، إحســـاس رهيب بالسعادة الغامرة سيطر عليه كلياً .. وإنسابت عبراته عفوياً حينما وقعت عينيه عليها .. وأمعن النظر فيها مطولاً قبل أن يمد يده المرتجفة لحملها ..
هي تملك سمات والدتها الخارجية .. لون البشرة والشعر .. نفس الشفاه .. ولكن لم يرْ عينيها بعد ..
فلديها بشــرة بيضاء فاتحة
وبحــذر شديد مــرر ذراعيه أسفل منها ليتمكن من حملها ..
إنها قارورته الغالية ، جوهرته الثمينة التي يخشى إيذائها ..
تنهد بحرارة وهو يقرب وجهها منه لطبع قبلة أبوية حانية على بشرتها الرقيقة ..
تململت الرضيعة بين ذراعيه ، فإرتجف قلبه خوفــاً عليها ..
ظن أنه يؤلمها بقبضته ، ولكنها كانت تتثاءب ، فضحك باكياً ..
قرب رأسها منه ، وقبلها مجدداً ، ثم همس في أذنها :
-تبارك الله ، إنتي .. إنتي ملاكي الجميل ، روحي ، إنتي حياتي كلها
حركت الرضيعة وجهها قليلاً ، وتأوهت بصوت آســر ، فزادت إبتسامته سعـــادة
دلفت الطبيبة مارجريتا إلى داخـــل الغرفة لتفحص الرضيعة ، لكن لم ينتبه لها أوس ، فتابعتهما بنظرات مترقبة ، وإندهشت من حديثه معها ، وتفاعل الرضيعة معه وكأنها مستمتعة بما يقصه عليها ..
أمــال أوس رأس الصغيرة للأعلى ، ثم قرب فمـــه من أذنها ليؤذن فيها بصوت خفيض ولكنه ســاحر ، أعجبت به الطبيبة وإبتسمت .. ثم تركتهما معاً دون أن تصدر جلبة ..
……………………..
أفاقت تقى بعد برهــة ، وتلفتت حولها لتدقق النظر فيمن متواجد معها ..
إستمعت إلى مزيج من أصوات أبيها وأمها ، وكذلك خالتها وليــان ، وســألت بصوت واهن :
-فـ.. فين بـ.. بنتي ؟
ردت عليها ليـــان بنبرة مطمئنة :
-الحمدلله بخير ، هي مع أوس
هتفت تهاني بسعادة :
-حمدلله على سلامتك يا بنتي ، تتربى في عزك وفي عز أبوها
بينما أضــاف عوض قائلاً بهدوء :
-الحمدلله يا بنتي ، ربنا معاكي ويحفظهالك ، وتكون زيك صالحة وتقية
هتفت فردوس هى الأخــرى بصوت شبه مرتفع :
-مبروك يا حبيبتي ، ربنا يباركلك فيها وتكون ونعم البنت البارة بأمها !
أردف عدي قائلاً من بعيد :
-حمدلله على سلامتك يا مدام تقى ، ومبروك المولودة !
ولجت الطبيبة مارجريتا إلى داخل الغرفة لتفحص مريضتها ، وجاءت بصحبتها ممرضــة ما ..
فســألتها تقى بصوت متقطع :
-بـ.. بنتي كويسة ؟
ترجمت لها الممرضة سؤالها ، فأجابتها الطبيبة قائلة بإبتسامة مرحة :
-She’s with her father , and he’s singing to her ( هي مع أبيها ، وهو يغني لها بسعادة )
بعد لحظـــات ولج أوس للداخل وهو يحمل بين ذراعيه برفق شديد كنزه الثمين ..
ركضت ليــان نحوه ، وأصرت على حمل الرضيعة لكنه رفض ، فإمتعض وجهها ، وهتفت بعبوس :
-أوكي يا أوس ، مش هنسهالك
ابتسم أوس وهو يقول بجدية :
-ممكن تسيبوني مع مراتي وبنتي شوية
هــز عدي رأســه وهو يرد عليه :
-خــد راحتك يا باشا ، احنا هنستناك برا
وبالفعل أخـــرج رفيقه الجميع من داخل الغرفة ليظل أوس مع زوجته وابنته …
دنا هو من الفراش ، وبحرص بالغ أســـند الرضيعة إلى جوار والدتها ، ثم احنى جذعه عليهما ليقبلهما سوياً ..
إرتسم على ثغر تقى إبتسامة باهتة ، وســألته بصوت ضعبف :
-هـا .. حلوة ؟
رد عليها بخفوت وهو يمسح على جبينها :
-دي حتة منك ! بس لســه مش عارف لون عينيها
أضافت بصوت هامس :
-بعدين هيبان ! فكرت هاتسميها ايه ؟
أجابها بعد تنهيدة مطــــولة :
-ايوه
-ايه هو ؟
سألته تقى بفضـــول وهي تطالعه بنظراتها
إبتسم لها قائلاً بعذوبة :
-هاسميها (( حيــــاة )) !!!
قطبت جبينها مندهشــة، ورمقته بنظرات إستغراب وهي تردد :
-حياة ؟
هــز رأســـه بإيماءة خفيفة وهو يجيبها بهدوء :
-أيوه .. لأنها حياتي كلها ، ودنيتي الجديدة اللي ماتمناش غير إني أعيش فيها معاكي ومعاها ..!
إبتسمت له إبتسامة رقيقة وهي تضيف :
-وأنا موافقاك ، هي حياة لينا كلنا ، بداية أحسن وأفضل للي جــاي !
……………………..
تعلق أوس بالرضيعة حيـــاة تعلقاً شديداً حتى باتت هوســـه الكبير ، والمصدر الرئيسي لسعادته الحقيقية .. وخاصة أنها كانت تحمل لون عيني والدتها ، فباتت نسخة ملائكية مصغرة منها ..
لم يفارقها إلا للحظات محددة ، وكثيراً ما كان يصطحبها معه لمقر شركته الرئيسي حتى أنه خصص لها في غرفة مكتبه ركناً خاصاً باللعب حتى تكون تحت أنظـــاره حينما يكون مشغولاً عنها .. ولم يهتم برأي العملاء ولا الموظفين.. فهو في النهاية صاحب تلك المجموعة ويحق لها التصرف كيفما يشـــاء …
وذات يوم ، وبينما كان هو مندمجاً في التحضير لأحد إجتماعاته الهامة .. أخبرته السكرتيرة بميعاد إجتماع مؤجل مع بعض الوكلاء التابعين لشركة أجنبية والذي تقــارب وقته مع إجتماعه الأخــر ، فإضطر على مضض أن يخصص لهم بعض الدقائق للإلتقاء بهم على عجالة ، ومن ثم تحديد ميعاد أخـــر لتناول كافة الأمـــور بالتفصيل ..
فولج إلى داخل مكتبه هؤلاء العملاء الجدد ، وتجاهل أحدهم التنبيه اللاذع الخاص بعدم التدخين .. فأشعل ذلك الوكيل ( الغليون ) الخاص به ، وألقى بعود الثقاب على الأرضية اللامعة دون إكتراث ..
أحضـــر الساعي صينية مليئة بالمشروبات الباردة ، وإنزعج من رؤية ذلك الوكيل يدخن ، فحذره قائلاً :
-ممنوع التدخين هنا يا فندم ؟
رمقه الوكيل بنظرات إحتقارية وهو يســأله بتهكم :
-ليه ، هو مكتوب هنا مستشفى ؟
رد عليه الساعي بهدوء :
-لأ يا فندم ، بس دي تعليمات أوس باشا ، واللي بيخالفها بيبقى في إجراء معاه
لوى الوكيل فمـــه إستهزائاً ، ثم أطفأ غليونه على مضض ..
ولج أوس وهو يحمل رضيعته على ذراعه ، فرمقه الوكلاء بنظرات متعجبة ، ولكنه لم يكترث بهم .. وأسندها في الزاوية الخاصة بها ..
ثم عــاد إليهم ، وأردف قائلاً بخشونة وهو يشير بيده لهم لكي يجلسوا :
-اتفضلوا ، أنا هاحدد ميعاد تاني معاكو ، بس الأول عاوز اخــد فكرة صغيرة عن طبيعة عمل الشركة على أرض الواقع مش الكلام المكتوب في الورق !
-أكيد طبعاً
قالها أحد الوكلاء بنبرة جـــادة ،ثم إستعرض بإختصــار أهم إنجازات الشركة في مجالها ..
في تلك الأثناء كانت الرضيعة حياة قد تعلمت الحبو ، وبدأت تزحف على قدميها وساقيها ، فتحركت في اتجاه أبيها بحماس ، واللعاب يسيل من فمها الصغير ..
لفت أنظارها عــود الثقاب المُلقى على الأرضية ، فإلتقطته بإصبعيها الضئيلين ، وحدقت فيه بفضول كبير ..
لاحظ أوس تعلق أنظـــار أحد الوكلاء بشيء ما خلفه ، وشروده عن المحادثة ، فإستدار برأســـه للخلف ليجد (( حيـــاته )) ممسكة بعود الثقاب وتقربه من فمها لتبتلعه ، فصـــاح بصوت هــادر :
-حيــــاة !!!
فُــزعت على أثره الرضيعة ، وبكت بخوف ، فأســرع نحوها وحملها بين ذراعيه ، وقبلها بحنو أبوي ، ثم جذب من أيدها ذلك العود .. وهدأها بحركات بسيطة ، ولكن إستشاطت نظراته غضباً وهو يعاود النظر إلى الوكلاء ..
سألهم بصوت قاتم يحمل الشراسة :
-مين فيكم كان بيدخن هنا ؟
ســـاد الإرتباك والقلق بينهم ، وأجابه أحدهم بتلعثم :
-مـ.. محدش ، إحنا
قاطعه أوس بصوت هـــادر ومخيف وقد تحولت نظراته للعدائية :
-أنا هاشوف في كاميرات المراقبة مين فيكم عمل كده وهيتحاسب عن ده ، ومش هارحمه !!
ابتلع المخطيء ريقه ، ورد عليه بنبرة مرتجفة :
-يا باشا أنا مقصدش ، ده كان سوء فهم مني وآآ…
قاطعه أوس بنبرة عنيفة :
-اعتبروا أي اتفاق لاغي ، حياة بنتي أغلى من أي اتفاق أو صفقة ، واللي يكسر قانون أوس الجندي مالوش مكان عندي ..!
ثم رمقهم بنظرات إحتقــــارية ، وتابع بجمـــود أشرس :
-بـــــــرا !!!
إنصرف الوكلاء من مكتبه وهو يلعنون حظهم العثر ..
حدق أوس في صغيرته بنظرات حنونة للغاية ، وداعب طرف ذقنها بإصبعه ، ولكنها خدشته بكفها ، فتأوه من الآلم ، وعاتبها قائلاً بخفوت :
-آآي .. ينفع كده ، شكلك زي مامتك ، مش بتسكني عن حقك
ردت عليه الرضيعة بحرف واضح :
-بـ..ا… بــا .. بــا .. بـ.. آآ…
خفق قلب أوس بقــوة ، وسـألها بتلهف وهو يطالعها بنظرات عاشقة :
-انتي بتقولي ايه يا حياة
استمرت الصغيرة في ترديد :
-بـ..آآ.. با .. بـ.. آآ.. با
هتف أوس مجدداً بعدم تصديق وهو يمطرها بوابل من القبلات :
-إنتي بتقولي بابا ، حبيبة قلبي وروحي وحياتي كلها يا حيـــاة !!!
……………………..
بعد مرور 3 سنين ،،،،،
انتهت ليان من دراستها الجامعية بالجامعة الأمريكية ، وتخرجت منها لتلتحق بالعمل في المقر الرئيسي لشركات الجندي …
لم يخفْ عــدي سعادته بزوجته التي أثبتت براعتها ، وتفوقها بالإضافة إلى نضوجها كأنثى عاقلة …
……………………..
كذلك تابعت تقـــى مع خالتها تهاني العمل في دار التقى لرعـــاية المسنين ، وعاونهما عوض وزوجته فردوس في تجهيز كرتونات الطعام للمحتاجين وتوزيعها عليهم ، ورغم مرض فردوس والذي تضاعف بدرجة كبيرة حتى باتت غير قادرة على الحركة إلا أنها أصرت على المشاركة بما في وسعها لتكفر عن ذنبها في أيامها الأخيرة …
……………………..
أصـــر أوس على الإنتقـــال لقصر جديد قـــام بتأسيسه ليتناسب مع حجم عائلته والذي زاد بإنضمام عضو أخـــر إليه إكتسب الكثير من سمـــاته الجادة والقوية ونظراته الثابتة ..
أسماه (( ريــــان )) ، وأحبه حباً جماً ، ولم يفرق في المعاملة بينه وبين أخته الكبرى .. ولكن إحتفظت حيـــاة بمكانة خاصة في قلبه …
……………………..
أغلقت تقى حاسبوها المحمول بعدما إنتهت من كتابة الفصل الأخير من روايتها الأولى والتي عكفت على كتابتها في وقت فراغها ، لتكون هي باكورة إنطلاق أعمالها الأدبية ..
، ثم نزعت نظارتها الطبية عن أنفها ، وفركت عينيها بإرهاق ..
إستمعت إلى صوت صغيرتها وهي تهتف ببراءة وهي ممسكة ببالون صغير في يدها :
-مامي ، آعبي ( العبي معايا ) !
ركضت تقى في إتجاه صغيرتها لتلهو معها قليلاً ، ولكن تركتها الصغيرة لتركض في إتجاه والدها حينما رأته وهي تهتف بسعادة واضحة :
-بابي .. بــابي !!
-روح قلب وحياة بابي !
قالها أوس وهو يحمل حيـــاته ، وقبلها بشغف ، ثم داعب وجنتها بإصبعه ، ودغدغها في جسدها ، فتعالت قهقهاتها الطفولية الآســرة ..
اقتربت تقــى وهي تجر عربة الصغير ريــان ، وهتفت متذمرة :
-واحنا مالناش في الحب ده ؟!
دنا أوس منهما ، واحنى رأســه ليقبل حبيبته ، وهو يردد بهدوء :
-ده انتي الحب الأول والأخير ..
ثم أعطاها الصغيرة لتحملها ، وانحنى أكثر ليحمل ابنه ريـــان من عربته ، فأمسك الرضيع بأذنه ، وظل يتفحصها ويتلمسها وكأنها إكتشــافه الهام و الكبير ..
طـــوق أوس بذراعه زوجته وطفلته ، وضمهما إلى صدره ، وهمس بتنهيدة إرتياح :
-ربنا يخليكوا ليا !
……………………..
بعد مــــرور عشرون عاماً ،،،
في المقر الرئيسي لشركـــات الجندي للصلب ،،،
وقف أوس أمــــام ذلك الحائط الزجاجي بجسده الشامخ ، وهيبته التي لا تليق إلا بـــه ، ثم عقد كفيه خلف ظهره ، وتأمل المشهد الخارجي لحركة السيارات بنظرات شبه شـــاردة ..
فقد عـــاد بذاكرته إلى لحظات مميزة قضاها مع حبيبته الأولى والأخيرة ..
فإلتوى ثغره بإبتسامة ناعمة وهو يتذكر ذكريات حمــل تقى المرحة معه ..
فلم ينس دقاتها المتواصلة على باب المرحــاض أثناء اغتساله ، فيضطر أسفاً للخروج دون أن ينعم بإستحمام هانيء ، وتدفعه هي بعنف للخـــارج لتدخل وتصفق الباب خلفها لتقضي حاجتها …
كمــا أدهشـــه شراهتها لتنــاول ثمـــار الخوخ في أوقـــات مختلفة من اليوم ، وبحثه ليلاً عنها في محـــال البقالة الشهيرة حتى في أوقــات عدم وجودها ، وطلبه إستيرادها من الخــارج خصيصاً لها ، ثم نفورها المفاجيء منها ، وتحول حبها للزيتون ..
قهقه بصوت خافت وهو يتذكر تخبئتها لبرطمـــان المخللات أسفل الفراش ، وشمــه لتلك الرائحة النفاذة التي أرقت منامه ، وإنكارها لهذا ، ثم إكتشــافه له أثناء بحثه عن حذائه ..
تذكر أيضاً بكائها الغير مبرر وهي تصر على مشاهدة تلك الأفلام القديمة ذات الطابع الحزين .. فكان يناولها المناشف الورقية واحدة تلو الأخــرى لتجفف عبراتها وتمسح أنفها ، ثم يحتضنها بعاطفة قوية ليواسيها رغم عدم إقتناعه بما يراه ..
ولم يغبْ عن ذاكرته عجزها عن غلق سحاب بنطالها بسبب إنتفاخ بطنها ، وإستعانتها بأحد بناطيله الجديدة لترتديها كبديل عنه .. واضطراره لإرتداء شيء أخـــر لا يليق من أجلها فقط ..
ذكريات تليها ذكريـــات تسابقت في عقله ، ليسرح فيها أكثر ..
من دخــول طفلته حياة للمدرســة ، وتعلقها بعنقه ، وتشبثها به ، وبكائها المتواصل لتركه إياها ، وإضطراره للبقاء أمـــام باب مدرستها طوال اليوم للإطمئنان عليها ..
لحظة حصـــول ابنه ريـــان على أول ميدالية في السباحة ، وفخــره به .. وركضه عليه ليريه إياها ..
نجـــاح العمل الأدبي الأول لزوجته ، وتحويله إلى فيلم سينمائي وتكريمها ..
سعـــادة حقيقية تذوقها مع عائلته وهو يعيش وسطهم أجــواء الأسرة الهادئة المستقرة التي لم يحظ بها في حياته السابقة …
……………………..
عــــاد أوس إلى واقعه الحالي ، وطالع بنظرات دقيقة ذلك الشاب الفتي الذي يحمل الكثير من صفاته الجسمانية وملامح وجهه وهو يدلف لداخل مؤسسته العريقة …
والتوى فمه بابتسامة مغرية وهو يعبث بأصابعه بالشيب الذي يكسو شعره .. وتلك العلامة البارزة ، والمحفورة في جبينه ..
وهمس لنفسه بمزاح وهو يتذكر وصفها له :
-شيخ الشبــــاب !!!!
إستدار بجسده نحو مكتبه ، ليحدق في صور زوجته الموضوعة في برواز ذو إطار فضي مميز ..
تلمسه بأصابعه ، ثم رفعه لينظر إليه عن كثب ..
سحب مقعده بيده الأخــرى ، وجلس عليه ليطالعها بنظرات شغوفة لم ينتقص قدرها بمرور السنــــون …
أعــــاد وضع البرواز على سطح مكتبه ، وأمسك بقلمه ليكتب عبارة تعني له الكثير على بطاقة صغيرة إعتاد إرسالها في مثل هذا اليوم من كل عام مع باقة ورد حمــــراء ..
فهو اليوم الذي أعلنت فيه عن حبها له ، وقبلت أن تكمل حياتها معه وأسلمت له قلبها قبل جسدها .. فحظى بعشقها ، وبات أسعد الرجـــال ..
..
خط أوس بقلمه بلغة منمقة :
(( وﻷجلكِ فقط .. انحنت أقوى وأعتى الذئاب ))
تم بحمد الله