الفصل الرابع
عيناه متقدة وهو يطالع ما أحضرته، وقد أحتل رأسه ظنون كاذبة أن الصغيرة تسخر منه هي الأخرى..وتضع لمسة شفقة على مظهره ” فقير الأناقة” كما اتهمته ضمنيًا ابنة العم وجرحته.. فاحترقت روحه واستعرت مقلتاه غضبًا بدا لها غير مفهوم، وهي تتسائل بارتجاف تملكها رغمًا عنها:
_مالك يا يزيد؟ هو هديتي مش عجبتك؟ ده انا فضلت يومين بحاول انقي اشيك قميص عشان اضمن إنك تحبه، وتخيلت قد إيه هيكون مبهر ومختلف عليك..وأختارت ” زرايز أكمام” تليق بيك وكان نفسي تلبس زيها من زمان.. ودورت على برفان يناسب شخصيتك الهادية.. معقولة تعبي ده كله راح على فاضي ومش عجبك ذوقي؟
اقترب منها وكأنه فقد رجاحته بتلك اللحظة، هادرًا:
أنتي مين انتي ياحتة عيلة لسه بضفاير عشان تعدلي على لبسي؟! مش عاجبك مظهري انتي كمان؟؟؟ بتسخري مني يا عديمة الذوق؟!
جحظت بصدمة لهجومه وفهمه الخاطيء لحسن نيتها، وترقرقت عيناها من إهانته ولا تدري ماذا فعلت لتتلقى كل هذا الغضب؟! فقط أحبت أن تهديه شيئًا على ذوقها لا أكثر، وتصورت أن هديتها ستكون مميزة، حتى أنها لم تخبر أحدًا بما أحضرت لأجله!
يا الله فيما أخطأت ليظن هديتي سخريتًا..
وماقصدت إلا إسعاده!
واصل إهانتها وهو يلقي هديتها أرضًا، وغادر الحديقة بأكملها.. تاركًا وراءه طفلة تبكي ولا تعرف سببًا لثورته!
__________________________
فدوة : عايزة ترجعي البيت دلوقت؟! ليه حبيبتي ده لسه الاحتفال في أوله وكلنا هنسهر سوا.. أمال مين اللي كانت عمالة تتحايل عليا إنها تبات عند خالتها وتسهر مع جوري؟
جاهدت في مدارة حزنها:
_ حاسة اني تعبانة يا ماما.. ومش عايزة ازعج حد.. خلي الكل يحتفل بيزيد وانا همشي، البيت مش بعيد، وهتصل اما اوصل..!
_ جوري وخالتك هيزعلوا منك لو مشيتي كده!
_ معلش، بعدين هصالحهم!
واستدارت تغادر. فأوقفها نداء والدتها:
_ عطر.. أكيد مافيش حاجة ياحبيبتي؟ شكلك زعلان. بس مين هيرعلك وليه.. لو في حاجة قولي لماما متخبيش عني!
عادت تطالعها، مستجلبة كل قدرتها عن التمثيل:
مافيش يافدوتي، أنا بخير!
لا تعرف لما هاجمها اشتياق غريب لأبيها فتسائلت:
_ ماما.. هو امتى بابا راجع من عند جدو وتيتة، وحشني وعايزة اقعد معاه!
حدجتها بقلق: قريب حبيبتي أما يطمن على تيتة.. بس ليه كده مضايقة، مش بتسألي كده عن بابا غير أما حد بيزعلك.. قولي لماما لو في حاجة!
_ مافيش بس واحشني.. ونفسي انام في حضنه!
ابتسمت ببريق حنان فاض من مقلتاها:
تموتي في الدلع.. خلاص يا عيلة.. هتنامي معايا الليلة وهاخدك في حضني.. ثم نهضت مستأنفة:
يلا بينا..!
أردفت عطر بدهشة: على فين. يا ماما؟! ماينفعش انتي كمان تمشي، كده هنلفت النظر وخالتوا فعلا هتزعل.. خليكي وماتقلقيش عليا، ودادة ” إحسان” هناك، يعني انا مش لوحدي!
همت بالأعتراض، فقاطعها عطر محركة قدميها: سلام يا ماما.. اشوفك أما ترجعي!
واختفت سريعًا من محيطها، فشيعتها بنظرة مرتابة، وقلبها يخبرها أن ثَمة شيء أزعج صغيرتها وتخفيه! هزت رأسها بشرود: ماشي يابنت ناجي.. بقيتي تخبي على ” أمك” وعندك أسرار! عموما هرجع واعرف كل حاجة منك!
__________________________
يفرك جبينه بضيق شديد..وغمامة أوهامه تنقشع رويدًا ليحل أمامه صوره أكثر اتضاحًا.. وأيضًا ندالة وتهور لم يتسم به يومًا..! هل ادخر كل شحنة غضبه وإهانة بلقيس له، ليصبها على تلك المسكينة التي أرادت فقط إهدائه شيء مميز؟! هل حالته النفسية افقدته العقل وحسن التصرف؟! لما أهان عطر ووصم هديتها بظن خاطيء من نسج خياله!! جرحها وما كانت تستحق.. ووجب عليه طلب العفو حتى وإن كانت صغيرة.. هو ليس كبيرًا على الأعتذار حين يخطيء!
……………………
بحث عنها ولم يجدها، فعاد لتلك الشجرة التي كان يقف عندها، فوجدا هداياها مُبعثرين بعشوائية، فجمعهم ووضعهم ثانيًا بتلك الحقيبة الكرتونية الملونة.. وصعد لغرفته ليخبئها، ثم عاد ليبحث عنها مرة أخرى!
……………
توجه لشقيقته جوري متمتما:
جوري، فين عطر مش شايفها ليه؟
أجابته بحزن: للأسف خالتو “فدوة” قالت أنها روحت، مع إننا كنت متفقين إنها هتبات معايا، وهنسهر شوية والصبح هنخليك تذاكرلنا رياضة سوا..!
شعر بخجل شديد من نفسه، كيف يؤذي الفتاة لتلك الدرجة، وهي لم تفعل ما تستحق عليه عقاب، بل استحقت كل الشكر، خاصتًا بعد أن علم أنها صاحبة فكرة إقامة هذا الحفل المميز له!
قال بخيبة أمل: ماشي ياجوري!
هم بالمغادرة، فأوقفته هاتفة بفضول:
آبيه يزيد، هي عطر جابتلك إيه هدية لعيد ميلادك، ومين فينا هديته أحسن أنا ولا هي؟؟ قول بجد!
صمت يطالعها بشرود، فإن قارن بين هدية عطر وبين ميدالية جوري الفضية الرقيقة التي تحمل حرف أسمه، ربما سيحتار..لقد اعجبته هديتهما معًا..ليته أعطى صغيرته الأخرى حقها من الثناء والشكر، لكن للأسف كان نصيبها إهانة وثورة غير مبررة.!
_ الأتنين حلوين يا جوري!
هكذا أجابها، فابتسمت بانتصار: الحمد لله، أصلها كانت عمالة تغيظني وتقولي إن هديتها هتعجبك أكتر لأنها فكرت كتير فيها وفضلت يومين تخرج عشان تجيب حاجة مميزة ليك، ومش رضيت تخلي حد يشوفها خالص قبلك..ثم تسائلت ومازال يتملكها الفضول: طب وريني هديتها بقى يا آبيه!
أردف بضيق حاول إخفاءه: بعدين ياجوري لأن شيلتها.. روحي معلش اعمليلي قهوة!
أطاعته: حاضر من عنية!
وبعد همت بالرحيل، استدارت ثانيًا واقتربت منه وشبت على قدميها وقبلت خده الأيمن هاتفة بحنان:
يارب نكون قدرنا نفرحك إنهاردة يا آبيه.. وأوعي حاجة في الدنيا تزعلك..صدقني ربنا هيرزقك بأحسن من اللي راح.. لأنك تستاهل يا أحن أخ في الدنيا..!
تأثر بعاطفتها ونظرتها التي تقطر حنان أمومي رغم صغر سنها، فضمها وهو يتمتم:
أنا لو ما أخدتش من الدنيا دي غير حنانك وحبك انتي وامي وعابد وبابا.. صدقيني هبقى راضي.. انتم كنزي وأغلى ما عندي.. ثم قرص وجنتها هاتفا بمشاكسة: متخافيش على اخوكي يا جوري، أنا جامد ومافيش حاجة هتأثر فيا..!
في الجامعة!
جالسة بالكافيتريا تنتظر رفيقتها.. وعقلها شارد، وهي تستحضر بعين خيالها نظراته التي تختلف عن الجميع! لم يحاول التقرب ولو بكلمة، گ باقي الشباب حولها الذين لم يكلوا من محاولة التعارف وتُفشل هي ودهم الزائف بصدها المنيع! أما هو فيجذبها عزوفه وكأنه من تبحث عنه روحها، فمنذ افتراقها عن “يزيد” ويصيبها فراغ كبير، نعم كان حنون سخي بعاطفته يحاصرها ويدلل أنوثتها بكلماته المحبة وشوقه الدائم، كان يُرضي غرورها ويعزز ثقتها بنفسها، فهي بالنهاية أنثي تشتاق أرتواء عاطفتها الفطرية.. ولم تجد حولها سوى تافهين طامعين بنظرات جائعة لوصالها..!
إلا هو .. رائد!
شاب وسامته مختلفة، ملامحه رجولية وجذابة، أنيق لدرجة تسرق نظرها رغمًا عنها. وهي تدور على هيئته خلسة.. عكس يزيد تمامًا.. تنجذب لشخصه بشكل لا إرادي.. وازداد في لفت نظرها له، بعد واقعة المعاكسة الوقحة التي تعرضت لها هي وتيماء بإحدى المولات التجارية القريبة، وتصادف وجود رائد هناك، ودافع عنهما ووبخ من ضايقهما بعنف ورغم أنها كانت تستطيع الدفاع والتكفل بذاك المتحرش الوقح، إلا أن داخلها أستمتع وراقها دفاعه وحميته.. وزاد إعجابها عندما صمم على السير خلفهم بسيارته..! العجيب أنها لاحظت تغيبه عن الحضور أسبوع كامل.. كيف استحوذ على تفكيرها لتلك الدرجة؟ لم يفعلها أحدا قبله، لم تميل لأحد بتلك الطريقة.. وكأن غيابه تلك الأيام. ، ترك فراغ داخلها لا تفهمه!
ما دهاكي يا ملكة أبيكي!
سيهتز عرشك لشاب لم يُظهر حتى بعض اهتمام يخصكِ به وحدك! والجميع ما عداه.. يركعون لسلطان جمالك گ العبيد، وتلفظهم قدماكي دون اكتراث!
قطع شرودها قدوم تيماء هاتفة:
ازيك يا بلقيس عاملة أيه؟
_ الحمد لله ياتيمو..إنتي عاملة إيه؟
_ كله تمام ياقلبي، بقولك إيه بما أن فاضل وقت على أول محاضرة، اطلبي نسكافيه نشربه. على ما أروح التواليت واجي!
_ ماشي.. انا محتاجة حاجة تظبط دماغي فعلا!
…………… .
تأخرت تيماء، وكذلك ” نادل” الكافيتريا، فنهضت تتمشى قليلا ريثما تأتي رفيقتها ويتناولا مشروبها قبل المحاضرة، وما أن خطت بضع خطوات حتى تسمرت قدماها، واتسعت حدقتيها دهشة، وهي تبصر قدومه، متعرجًا بعكاز، وإحدى قدميه بها ” جبيرة بيضاء” تغطي نصف قدمه اليمنى.. وجدت نفسها تقترب منه وعيناها معلقة على مكان إصابته هاتفة:
_ ألف سلام عليك!
أجابها بابتسامة: الله يسلمك!
أردفت باهتمام: أمتي حصلك كده..؟
_من حوالي أسبوع، عربية بنت حلال صاحبها شكله كان شارب حاجة، خبطني وجري.. بس الحمد لله ناس نقلوني على المشفى ورجلي اتجبست زي ما انتي شايفة!
هزت رأسها بأسف حقيقي: معلش، كويس إن جت على كده! بكره تبقى تمام ورجلك تخف!
ابتسم لها بجاذبية لها تأثيرها: طبعا الحمد لله.. هو لولا رجلي اتجبست كده، كنت شوفت في عنيكي القلق اللي انا شايفه دلوقت؟! خايف اتغر في نفسي.. واتصور إني مهم عندك!
توترت قليلا وحاولت الثبات قدر المستطاع: بلاش مبالغة.. تصرفي عادي يعني مالوش أي معنى زي اللي في خيالك!
تشربت حدقتاه السوداء عسل عيناها الضاوي بشمس الصباح، وكأن الطبيعة سُخرت لتبرز لوحة جمالها الرباني، وشجرة خضراء عالية تُظلل بجزوعها وأوراقها الخضراء خلفيتها، مرصعة زهور صفراء يانعة..زادت من فتنة مظهرها.. فوجد يده ترتفع بهاتفه ليلتقط لها صورة خاطفة دون تخطيط مسبق!
أزعجها وأحرجها تصرفه الجريء، والتفت حولها لتتبين إن لاحظ أحدهم فعلة ذاك الأحمق.. فلم تجد أحدا، فعادت تطالعه بنظرة غاضبة مؤنبة:
أنت اتجننت يا رائد؟ إزاي تعمل كده وتصورني؟ مش من حقك على فكرة.. وحالا تمسح صورتي من تليفونك!
هتف بأسف: أنا مقصدتش اصورك.. بس بجد مقدرتش اقاوم وحسيت اني عايز اسجل اللقطة دي!
أعادت طلبها بقسوة: بقولك امسح صورتي حالًا!
رمقها طويلًا، ثم مد يده إليها بهاتفه، قائلا:
اتفضلي.. أحذفيها بنفسك عشان تطمني!
التقطه وحذفتها، ثم اعادت هاتفه، وقالت بتحذير:
إياك تتصرف بحماقة مرة تانية وتعمل حاجة مش من حقك.. عن إذنك!
_ بلقيس؟! إنتي روحتي فين يابنتي.. أنا جيت مش لقيتك!
قالت بدون تركيز: ها.. ابدا اتمشيت شوية وقلت اطلب نسكافيه من على ما تيجي!
تيماء: يعني طلبتي نسكافيه؟
قالت دون انتباه: لأ… نسيت!
رمقتها تيماء بشك: بلقيس.. مالك مش على بعضك كده ليه؟ في حاجة حصلت؟ وعمالة تبصي وراكي كده ليه؟
_مافيش يا تيماء، مش ببصي على حاجة، ومعلش هستأذن، عشان السواق رن عليا وجه بره.. أشوفك بكرة ..سلام!
رمقتها تيماء بريبة متعجبة من حالتها، ثم قالت: ماشي يا ستي على راحتك! لو خبيتي تقوليلي حاجة ابقي كلميني!
_ يلا يا جوري عشان نراجع الحاجات اللي واقفة. معاكي قبل ما اخرح!
_ حاضر يا آبيه، هجيب كتبي واجي!
أردف سريعا: هي عطر مش جاية عشان أراجعلها شوية رياضة بالمرة؟
_ لأ ..قولتلها تيجي، قالتلي ياسين هيذاكرلها انهاردة!
هز رأسه مدركًا أنها مازالت غاضبة، فابتسم محدثًا نفسه: هتعمل فيها كبيرة بقى وعندها كرامة!
_طب روحي انتي اعمليلي النسكافيه اللي بحبه منك، وانا هتصل بيها تيجي!
قالت بتأفف: يعني لسه هنستناها؟ أنا عايزة اخلص عشان لسه ورايا حاجات كتير اعملها..!
قال معنفا إياها: من إمتى الندالة دي؟! إنتي مابتصدقي تتقابلوا وترغوا ..
قالت بعبوس: أنا مخصماها.. كل اما اقولها تعالي ماتجيش وتتهرب، عشان كده زعلانة منها..!
ابتسم لطفولة جوري: معلش اما تيجي هصالحكم.. بطلي رغي بقى وروحي على ما اكلمها..!
………………… .
جالسة بغرفتها، شاردة وهي تضع إصبعها بفمها، گ عادتها دائما كلما شردت، تفكر بحل مسألة رياضية صعبة تعجز عن فك طلاسمها.. صدح بغتة رنين هاتفها، فوجدته يزيد، تجاهلت الرد حتى انتهى الرنين، وعاد الكرّة بعد ثواني خاطفة، فاضطرت للرد قائلة ببرود: السلام عليكم!
وصلها صوت قائلا بلوم: ينفع ارن كل ده وماترديش ياعطر؟
شعرت ببعض الحرج، فهتفت بلعثمة: أسفة كنت بعيدة عن التليفون!
هتف برفق: خلاص ولا يهمك.. المهم أنا متصل اقولك تعالي عشان أذاكرلك الرياضة مع جوري!
أجابت بكبرياء: شكرا.. أخويا ياسين هيذاكرلي!
رفع حاجبًا وابتسم بتسلية: بقى كده عطر؟ تبيعي استاذك يزيد عشان ياسين اخوكي؟ مش دايما تقوليلي مش بفهم إلا منك؟ وياسين بيتعصب عليكي ومش بيعرف يفهمك؟
قالت بعناد طفولي: مش مهم.. خليه يزعقلي عادي!
ابتسم بحنان، ثم هتف مازحًا: طب خلاص يا قردة ما تعمليش،فيها بني أدمة.. أسفين يا صلاح! عارف إني اتعصبت عليكي وزعلتك.. معلش أنا زي ياسين مافيهاش حاجة لو زعقتلك.. مش أنا أخوكي؟
أجابته بحزم شديد لا يليق بطفولتها:
لأ.. مش أخويا..! ولما تزعقلي وانا غلطانة، غير لما أكون مش عملت حاجة وتزعقلي كده! عموما أنا مش جاية!
هتف بعتاب حقيقي: كده ياعطر.. للدرجة دي زعلانة؟ يعني اعتذاري ده مالوش أي قيمة عندك؟! عموما براحتك، مش هضايقك اكتر يابنت خالتي.. ابقي سلملي على اللي عندك.. سلام!
تراجعت سريعا عن عنادها هاتفة: أستنى!
وواصلت تعاتبه بجدية: أنا زعلانة منك لأني معرفش انا غلطت في إيه.. ممكن تقولي فين غلطتي؟
مسح علي وجهه بضيق، لا يريد التطرق لشيء لن تفهمه، ولن يقدر على إيضاحه، فتمتم:
عطر.. باختصار الغلط مش منك أبدا.. الغلط مني أنا.. اتسرعت وظلمتك برد فعلي.. وانا بتأسفلك لأن فعلا غلطت في حقك!
اعتذاره ومحاولته استرضائها جعلها تبتسم لشعورها بأهميتها لديه، فأردفت بمزاح:
طب هتجيبلي أيه أما اجي عشان تصالحني?
ضحك من قلبه: أيوة كده عطر العسولة أم قلب أبيض زي وشها الجميل! من عنية، هنخلص مذاكرة انهاردة. وبكرة أوعدك أخدك انتي وجوري واغديكم في النادي واعزمكم على اللي تختاروه!
رغم أن وصفه لها مجرد مجاملة عابرة، إلا أن خفقات قلبها ازدادت.. وهتفت دون تركيز: هو أنت بتشوفني حلوة بجد؟
أجابها ببساطة وعفوية:
أه طبعا زي القمر، زي جوري بالظبط.. يعني اما تكبروا شوية مش هنلاحق على عرسانكم!
تجرعت ريقها بخيبة أمل، لما لا يراها سوى شقيقة گ جوري..متى سترى عينه حقيقة الأشياء! لما لا يبصرها كما يليق بها..! تؤرقها وتراودها تلك الافكار كثيرًا! هل مشاعرها القوية تجاه يزيد، هي مجرد مشاعر مراهقة مؤقتة؟ وانجذابها له فقط لأنه أول شاب في محيطها، وعندما تنضج قليلا ستنسى وتضحك على تلك المشاعر الساذجة؟ أم هي بالفعل تكن له حب حقيقي؟ دائما ما ترى يزيد مختلفًا عن أخيها ياسين و حتى عابد.. لديه شيء يميزه بشدة، حنانه الطاغي الذي تعرفه جيدا، أخلاقه التي لم تعد لها وجود، هو بنظرها فارس بحق.. لا يستحق أن ينعت بالدمامة، كما فعلت تلك الحمقاء بلقيس، يزيد يحتاج لمسات عاشقة.. تعيد تشكيل قسماته من جديد!
خطر على بالها بتلك اللحظة سؤال ما، فوجدت نفسها تسأله دون تردد:
_ لو بلقيس هي اللي جابتلك نفس هديتي، كنت هتغضب وتثور كده وتزعل وتفهمها غلط؟ ولا كنت هتفرح بهديتها؟
صمت وتلاشت ابتسامته وتلون وجهه بالحزن.. ليتها فعلت.. ليتها أظهرت إهتمام بأي شكل يوحي له برغبتها في تغيره، فإن فعلت لكان فسر قلبه العاشق لها أن رغبتها ما هي إلا وسيلة في تقريبه منها وتقليل المسافات بينهما..وحبًا بشكلٍ ما.. ليتها تقدمت تجاهه خطوة واحدة.. ويقسم أنه كان سيهرول أميالا أمام خطوتها.. لكنها أتخذت من عيوبه حجج وأسباب لتركه.. والتخلي عنه.. عطر محقة بشعورها، نعم لو أحضرت له بلقيس نفس الهدية، لتقبلها بسعادة ولرفرفت روحه بالسماء!
_ وصلني إجابتك وفهمت!
أتاه صوتها المحبط، فقال ليخفف خيبتها:
عطر..انا وبلقيس خلاص انتهينا.. ياريت ماتجبيش سيرتها تاني.. وخلاص ماتكبريش الموضوع أنا اعتذرتلك.. ومستنيكي، مش هذاكر لجوري غير لما توصلي، يعني ذنبها هيكون في رقبتك!
أنتهى يزيد من مساعدة الفتاتين، ببعض المسائل المعقدة.. وكان ينتوي المغادرة، فأصرت والدته أن يتناول غداءه أولا، كما أصرت أن تبقى عطر أيضًا لأخر اليوم.. وحين تريد المغادرة ستذهب بصحبة عابد أو حتى بمفردها، فمنزلها لا يبعد كثيرًا عن مسكن الخالة!
…………… .
الخالة كريمة: فين جوري ياعطر؟
_ قالت هتاخد شاور تفوق وتيجي، وانا مستنياها..!
الخالة: طب معلش ياعطر، بشطارتك كده خلي يزيد ياكل طبق الفاكهة ده..أكلته مش عجباني من وقت اللي حصل، وجسمه بقى في النازل!
أومأت برأسها: حاضر يا خالتو.. مش هسيبه إلا اما يخلصه كله!
قرصت وجنتها بمشاكسة: حبيبة خالتو انتي يا عطر!
وواصلت وهي تناولها طبق أخر: وده طبقك، عارفاكي بتموتي في الفاكهة!
ضحكت عطر ومازحت خالتها: أيوة كده ياخالتو، أنقذتي طبق ابنك، كنت بخطط على ما اوصله أخلص نصه!
ضحكت الخالة من قلبها: منا عارفاكي، ده انتي تربيتي..! يلا بقى روحي وعايزة الطبقين دول يرجعوا فاضين!
……………………
وقفت تتأمله من مسافة قريبة نوعًا ما.. الألم مازال محفورًا على وجهه، وهو يطالع بعض ازهار الحديقة بنظرة شاردة، واضعًا يديه بجيب بنطاله!
لتلك الدرجة كان يعشقها؟ منذ وقت بسيط تحدثت عنها جوري بسوء أمامه، فوبخها بشدة، وحذرها أن تذكر أبنة العم بتلك الطريقة مرة أخرى!
وكم أشعل تصرفه غيرتها وإنبهار قلبها المراهق بنفس القدر.. يزيد فارس نبيل، وعاشق حقيقي!
ألتفت لها فجأة، وهتف بمرح يحاول اصطناعه مع الجميع: واقفة كده ليه يا قردة.. تعالي!
اقتربت ووجنتها مشتعلة إحراجًا لضبطه لها تطالعه خلسه، فهتفت بعبوس طفولي: أنا مش قردة..!
ابتسم لها: لأ قردة.. بتتنطي في كل حته، هوايتك تتسلقي الأشجار، وتقطفي الفواكه المسكينة بتاعتنا..!
وفاكهتك المفضلة الموز، وبتموتي في الفول السوداني، تبقي إيه؟؟؟
عبست بحق هذه المرة: بتعيرني عشان بطلع على الشجر بتاعكم؟ ماشي يا يزيد.. مش همد ايدي في فاكهتكم تاني!
ضحك ورمقها بتسلية: مستحيل تعملي كده، دي عادة عندك.. أنتي السبب في عجز محصول الفاكهة بتاع كل سنة في أرضنا..!
أستاءت من مداعبته، فقالت بضيق مضحك وهي تضع صحنين الفاكهة على سور الحديقة أمامه:
طب ولا تزعل نفسك.. اتفضل كل الفاكهة ليك، وانا مش هاكل معاك زي ما قالتلي خالتو.. سلام!
التقطها قبل أن تتحرك من ياقة كنزتها الخلفية گ المخبرين، وقال وهو يقهقه: خلاص ياقردة بهزر معاكي!
_ سيبني بلاش مسكة الحرامية دي.. أنا اصلا كنت همشي وخالتو حلفت اتغدا معاكو الأول..!
تركها وهو يتمتم : خلاص اتغدي وانا هوصلك، لأني هخرح بعد الغدا..!
أمتعض وجهها وگأنها تنوي شرح مآساة: والله ما عايزة أكل.. انا محدش مساعدني، نفسي اكمل ريجيم للأخر.. بس ماما مابتقطعش المحشي والبشاميل من البيت.. وخالتو شغالة صواني رز معمر وانا بعشقه منها.. قولي ازاي انا والمسكينة جوري هنخس جرام واحد قبل الجامعة؟!
انفجر ضاحكا وهتف من بين ضحكاته:
بصراحة مآساة فعلا.. ولازم حقوق الإنسان تعالج مشكلتكم دي!
رفعت حاجباها بتهديد: بلاش سخرية لو سمحت.. دي فعلا مآساة لبنت قربت على مرحلة الجامعة..!
عموما اتفضل خلص طبقك بقى عشان أكون خلصت مهمتي زي ما وصتني خالتو!
فقال: هي ماما طلبت منك كده؟
_ أيوة، وادتني طبق معاك عشان عارفة أني كنت هاكل نصه قبل ما اوصلك!
ضحك من قلبه.. عطر له گ الفاكهة التي تعشقها تماما.. خفيفة الظل لذيذة وشهية حتى بعز غضبها.. تمتلك بقلبه نفس معزة شقيقته جوري وأكثر.. ودائما قادرة على نزع ابتسامته وضحكة.. كما هي قادرة على أثارة جنونه وغضبه حين تسيء التصرف بسذاجة أحيانٍ كثيرة..!
قدمت له إصبع من الموز بعد أن نزعت قشرته:
اتفضل بقى انطلق وكل طبقك عشان تلحق تتغدى!
نظر لها وقال بمشاغبة: شوفتي! ماجبتش حاجة من عندي أهو.. القردة اللي جواكي أختارت تبتدي بالموز مش أي حاجة تانية? معذورة دي فاكهة القرود!
عقدت حاجبيها بتركيز تستوعب مزحته، ثم انفجرت مقهقهة هي الأخرى: بصراحة مش هقدر هجادل المرة دي.. بس ان بردو مش قردة.. لما بتقولي كده بتحسسني إن شكلي بشع!
رمقها برهة وقال بعفوية صادقة: بالعكس،يا عطر انتي بنت جميلة جدا جدا.. وكل مادا بتحلوي أكتر ومش هنلاحق على عرسانك يا مفعوصة!
للمرة الثانية يرضى أنوثتها أول جملته، ثم يحبطها بأخر الأمر..
وجدت نفسها تُلقي عليه سؤال لم تخطط لطرحه، وتفوهت دون تفكير گعادتها: هو انت لسه بتحب بلقيس وزعلان إن هي اللي سابتك؟
انقلب وجهه وحدجها بنظرة غاضبة لائمة، فأدركت خطأها وتسرعها وغباءها.. كيف لها أن تكون بتلك الحماقة؟! ستظل گ المدب.. لا يمر الكلام بعقلها أولا .. فهتفت لتحسين ما قالته:
أنا أسفة والله مش قصدي!
التفت عنها وأعطاها ظهره وقال بصوت حازم خالى من مرحه السابق: ماتدخليش في حاجة مالكيش فيها تاني بعد كده ياعطر.. وروحي لجوري وسيبيني، وخدي الفاكهة معاكي لأني ماليش نفس!
أنبها ضميرها لجرحه وإثارة وجعه هكذا، فقالت بصوت أقرب منه للبكاء: سامحني والله ما قصدت.. معلش ماتزعلش مني، وكل طبقك عشان خاطري.. خالتو وصتني اخليك تاكلوا عشان…… ..
قاطعها بحدة: هو انا عيل صغير قدامك، لازم اخلص طبقي عشان اكبر.. قولتلك خدي فاكهتك وامشي، عايز ابقي لوحدي.. إيه هو كلامي مش مفهوم؟
بعد عدة أيام!
جالسًا يرتشف قهوة الصباح بحديقة منزله، وعقله شارد.. فأقبلت ” دُرة” وهتفت:
سرحان في إيه يا عاصم!
نفض عنه شروده وقال: في أدهم.. رغم انه كلمني بشكل طبيعي جدا وقالي انه متفهم إن مافيش نصيب بين ولادنا، بس حاسه بردو زعلان!
هونت عليه: طبيعي يا عاصم، يعني اما يشوف ابنه مضايق هو هيزعل عشانه.. وواصلت بتنهيدة: انا بقى بصراحة مكلمتش كريمة من وقتها، واما قابلتها من يومين في الطريق، اتعمدت ماتبصليش واتظاهرت أنها مش شافتني! وانا عذرتها، وبعد ما كنت هحصلها واصمم اكلمها، قررت اسيبها تهدى خالص، واكيد الأمور هترجع مع الوقت!
أومأ بتفهم: إن شاء الله.. وواستطرد: بلقيس عندها محاضرات أنهاردة؟
_ لأ ..بتقول بكره!
فاقترح عليها:طب ما تروحوا النادي شوية؟ قضوا اليوم سوا واتغدوا وانا هاجي بالليل اخدكم!
راقها اقتراحه فهتفت: والله ممكن ليه لأ.. ثم تردد هاتفة: بس! ..تسائل: بس إيه؟
_ افرض أنا ولا بلقيس قابلنا كريمة! خايفة يحصل موقف بايخ.. خصوصا بحضور الولاد!
هز رأسه بالنفي: لا ما أظنش.. كريمة عاقلة.. عمرها ما هتتصرف زي ما بتتخيلي، وبالعكس هتكون فرصة تدوبي الجليد اللي بينكم..يلا قومي وماتشغليش بالك وخلي الدنيا تمشي طبيعي، وانا هتصل بالسواق يجي على ما تجهزوا..!
عبر الهاتف!
تسائلت عطر وبنفسها غرض ما: كلكم رايحين النادي يا جوري؟ (أيوة!..) هكذا أجابتها..!
فأرادت الاستيضاح أكثر:
يعني عابد ويزيد كمان جاين وهيتغدوا معانا؟
جوري ببساطة: بابا عنده شغل مش هايجي غير بالليل، وعابد ويزيد جايين وقت الغدا، لكن أنا وماما بنجهز اهو عشان نروح، فقلت اكلمك تجهزي انتي وطنت وياسين لو موجود! اهو تغير، قبل ما نبتدي امتحاناتنا.. محتاجة افصل بصراحة!
هتفت بحماس بعد أن اطمئنت لمجيء “يزيد” الذي مازال غاضب منها ولا يحاكيها منذ أخر مرة تجاوزت معه..حتى أنها تعمدت الامتناع عن زيارة بيت خالتها، ربما اهتم واتصل بها گعادته.. لكن لم يفعل، هو غاضب ولديه حق.. واليوم ستكون فرصة لتعتذر له!
بعد تناول بلقيس ووالدتها غدائهما في النادي، هتفت:
_ ماما.. هروح اتمشى شوية في “التراك” ولما اجي نشرب العصير سوا..!
والدتها بإماءة: ماشي ياحبيبتي، وانا هستناكي!
…………………..
وصلت لتلك المساحة الدائرية الواسعة، وهي تسير بسرعة معتدلة.. والأفكار تدور برأسها بصخب، لا تستوعب كيف تحيا تلك الحالة.. هل حقًا تشتاق رائد؟ ويسوئها تجاهله لها بعد موقف الصورة التي التقطها لها بغتة؟ هل وصل احتلاله لمشاعرها لمرحلة امتلاك كل ذرات عقلها؟ فصارت تتخيله بوجه المارة حولها، يصاحبها الشرود دائمًا..! تتعجب لما هو تحديدًا استطاع الاستحواذ على اهتمامها وتفكيرها؟ ليتها تجد إجابة واضحة تُطرح لترضيها.. !
وبينما هي غارقة بحديث ضميرها الخفي، أصطدمت برؤية ابنة العم جوري، تصاحبها عطر ابنة خالتها.. فهتفت داخلها بسخرية ” ده اللي ناقصك يا بلقيس استعدي لحوار عقيم وكلمات بايخة من طفلة، وقريبتها دي اللي عنيها هتحرقك وهي لسه بعيد”
وصلا أمامها، وفوقفت بلقيس بادئة بالتحية لتخفيف التوتر: أزيك يا جوري عاملة؟ ثم حادت بنظرها للأخرى: أهلا ياعطر.. بقالي كتير ماقابلتكيش.. أخبارك إيه؟
تجاهلت عطر الرد عليها، منشغلة بنقطة ما، أما جوري فهتفت بفظاظة: بخير ..وكتر خيرك على السؤال..! ولم تضيف حرفًا واحدًا، وهمت بمواصلة السير حتى دون انتظار ردًا من بلقيس كما تتطلب اللياقة!
فاستوقفتهما بلقيس بلوم لجوري: دي طريقة تكلمي بيها بنت عمك الأكبر منك؟!
كتفت جوري ذراعيها أمام صدرها هاتفة بسخرية:
أكبر مني؟ والله أنا حرة يا بلقيس اتكلم زي ما احب، وأضافت بتهكم أحنق الأخيرة: أو حتى ما اتكلمش خالص.. براحتي يا…… يا كبيرة!
أخرجتها سخرية ووقاحة جوري من تعقُلها وهدوئها المعهود، فقالت بحدة: أنتي قليلة الذوق على فكرة.. اللي حصل بيني انا ويزيد، مايعطكيش حق تكوني قليلة الذوق كده معايا ده نصيب في الأخر!
فاض الكيل بعطر، فما أن أساءت لجوري حتي تحفزت قبضتيها بقوة وكأنها تريد ” لكم” وجهها ا.. لبرودها وهجومها على جوري، فهتفت بفظاظة:
_ جوري مش قليلة الذوق، وأياكي تغلطي فيها بدال ماتسمعي مني كلام مالوش لازمة!
اضيقت حدقتي بلقيس وهي تحدج عطر ببرود، وتمتمت: وانتي كمان بنت مش مؤدبة!
وگأنها كانت تنتظر الفرصة لتصب عليها كل غضبها وحقدها.. فهتفت بغل: أنا مؤدبة غصب عنك.. على الأقل أحسن من ناس شايفة نفسها على الناس، وفاكرة اللي خلقها ما خلقش زيها، روحها قبيحة عكس صورتها اللي مالهاش فيها فضل، ومن غيرها ماتسواش بصلة ولا حد يعبرها.. لأنك مغرورة وفي يوم هتقعي من برجك العالي ده وتتكسر رقبتك!
لطمة قوية مباغتة، نزلت گ صاعقة على وجنتها، فأغمضت عيناها بشدة تستوعب الألم والمفاجأة، جاهلة من أين أتتها الصفعة.! ظلت بضع ثواني معدودة تضم جفنيها بقوة، ثم رمشت بعينيها لتتبين من تجرأ عليها.. فوجدت جوري تنظر يمينها بذهول. وبلقيس ترفع حاجبيها بتعجب شديد.. بينما يزيد يحدجها بنظرة قاسية، محذرًا وسبابته بوجهها:
إياكي تتكلمي كده مع حد ما غلطش فيكي مرة تانية! أو تدخلي في حاجة مالكيش فيها، واتفضلي اعتذري حالا!
ما هذا الآلم الذي فاق صفعته الغادرة بمراحل؟!!!
آلم لا يوازيه سوى طعنة سكين بعمق القلب والكرامة..! هل صفعها يزيد؟ هل أذلها أمام حبيبته المغرورة قبيحة الروح كما تراها دائمًا؟ أهانها لأجل من جرحت كرامته ورمته بذبنب القبح؟!.. لا تعرف أيهما أقسى مرارة؟ دموعها المُسالة من مقلتيها بخذلان.. أم نزيف قلب دامي، لم تختبره يومًا..!
موعدنا الثلاثاء القادم!