الفصل الثاني
الموت حق..
هو نهاية الحياة..
هو النهاية الحتمية لكل ما يسير حولنا..
والفقد هو أحد أسرار الصبر مهما بلغت من الحزن..
كن واثقاً أن الله لم يفعل شئ عبثا.. .
مر أسبوع وهو على حالته ينظر للفراغ ، للاشئ يده وساقه مجبرة ، أسفل عينه كدمة زرقاء وخدوش متفرقة على سائر جسده .
طرقٌ على الباب ولكنه لا يهتم ، هو لم يشعر بتلك الطرقات من الأساس ، أطل عليه صديقه أيهم من خلف الباب ليجده علي نفس الحال ليقترب منه ويناديه عله يرد :
– كنان ؟ .
لم ينتبه له وكأنه غير موجود ليكرر ندائه مرة أخري :
– كنان انت تسمعني أليس كذلك ؟! .
لم يرد أيضا ليكمل أيهم :
– أعلم أنك حزين ولكن عليك العودة يا صديقى .
وأخير خرج كنان من صومعة صمته وحزنه ورد عليه بصوت متحشرج :
– حزين… ! ، بل أنا مكسور ، مُهشم الروح ، أشعر بأن قلبي ينزف ، كلمة حزن ابدًا لن تفي وصفي ، أجزم أنه إن رآني الحزن لفر هاربًا من أمامي .
اغمض ايهم عينيه بألم وقال :
– أعلم وأشعر بك ، ولكن هل تظنهم سعداء الآن وهم يرونك هكذا أقسم أنهم يتألموا أضعافًا على حالتك .
صمت كنان قليلاً ثم قال بإرهاق :
– انا متعب يا صديقي ، أشعر بألم في صدري اقوى من أن أتحمله .
ربت ايهم على كتفه وقال :
– فلتبكِ يا صديقي ، عسى أن تبرد كل آلامك ، أخرج كل ما يهيج بداخلك ، فقط ابكي .
كأنه أهداه تذكرة أو فرصة للبكاء ، ليبكي ويصرخ ، أقترب منه أيهم واحتضنه وربت على كتفيه وهو يشاركه نوبة بكائه .
مرت ساعة أو أكثر وهو علي حالته تارة يبكي ، وتارة يصرخ ، وتارة يكسر ما تقع عليه يداه ، حتي هدأ نسبيًا عدا صوت
شهقاته الذي بدا كطفل صغير ابتعد عن أحضان والدته .
ساعده أيهم ووضعه في فراشه ودثره جيداً ثم خرج من الغرفة ليتركه يرتاح .
انتهى الأسبوع ليتبعه آخر وآخر ، فأكتمل شهر برأت فيه جروحه الظاهرة ، وصار يتحرك كالسابق ، ألا أن شيئًا فيه تغير ، صار يغضب سريعًا ينفعل من أقل موقف ، ترك الغناء وأصبح لا يهتم بشيء ، لم يعد هناك ما يجعله يتشبث بالحياة ، هو فقط يشعر باللاشيء ، يتحرك مثل الآلة ، عيناه جامدة
وقلبه مات مع أحبابه ، حتى فى ذلك اليوم قرر زيارة قبر عائلته ، أخذ باقة ورد وضعها علي قبر أبيه وأخذ منها زهرتين إحداهما علي قبر والدته وأخري علي قبر شقيقته .
جلس أمام قبر شقيقته وما لبث أن انفجر بالبكاء وعلا صوت نحيبه وهو يذكرها بأيامهما معاً وأمنياتهم ، يحدثها أنها
رحلت سريعاً ، سريعاً جداً .
وعلى القرب منه كانت هي موجودة تفعل شئ ما ، ليجذب انتباهها صوت آخر غيرها
، اقتربت لتري من هو فزحفت البسمة على ثغرها ، هنيئًا عليها صيدها الثمين .
وقفت أمامه ليرفع نظره إليها ليجد فتاة جميلة برداء أحمر اللون وشعر اصفر متدرج وعينان تقطر منهما الفضة اللامعة .
ابتسمت له قائلة :
– هون عليك .
رفع نظره إليها وأردف:
– من أنتي ؟! .
رددت عليه برقة قائلة :
– أخبرني أولاً لم البكاء .
ارجع كنان نظره موضع قبر شقيقته وقال ببرود :
– ليس من شأنكِ ، أكره المتطفلين .
رددت عليه بابتسامه عذبة :
– وانا أكره البكاء .
رد عليها كنان :
– اذهبي واتركيني وشأني لا طاقه لي اليوم بأحد .
أخذت تدور حوله ثم قالت :
– من يدري ربما علاجك عندي .
نظر إليها كنان متسائلاً وقال :
– ما قصدكِ ؟ .
- لا شئ .
-
اذن ارحلي .
فردت عليه قائله :
– لك هذا.
تحركت من أمامه لتقف خلفه تُرتل كلمات غريبة لم يفهم منها شئ وما أن أدار رأسه ناحيتها حتي سقط أرضاً .. لتبتسم بخبث فقد سقط أولى ضحاياها ، وحان وقت تحريك أول جندي لها على الساحة .
أصوات الإسعاف وسيارات الشرطة تملئ المكان ، جريمة بشعة وغريبة بعض الشئ
” قتل ” والقاتل لم يترك خلفه أثرًا ، والضحايا أعناقهم منحورة بآله قتل حادة ، مشهد بشع ، وهنا يبقي السؤال :
– من القاتل ؟ ، وما سبب جريمة شنعاء كتلك ؟ ، كان معكم مراسلكم من قناة.. .
لم يكمل الحوار فقد أغلق التلفاز ولم يشاهد الباقي ليتأفف منزعجاً من تلك الجريمة الغريبة ، فحدث كنان نفسه مستنكراً ” كيف استطاع فعلها ، ألم يشعر بالضيق ، أكره الدماء ”
دماء ، صراخ ، أصوات يعرفها تناديه ، ظلال لأشخاص يعرفها وفتاة جميلة بثوب أحمر تنظر له وتبتسم ، وهو يهرول مبتعداً ويهرب منهم حتي سقط في بئر لم يعرف
كيف وصل لمكانه.. .
انتفض من نومه فزعًا ، جبينه يتصبب عرقًا وصدره يعلو ويهبط بسرعة تزامنًا مع تنفسه الغير منتظم ، لينهض من فراشه
ويهمس ” ما هذا الحلم الغريب !! ، يا الله أشعر أني على معرفة بتلك للأصوات ، ولكن من هم ؟! ألهمني الصبر يا الله ”
في الصباح استيقظ من نومه قلقًا ، ولم يأخذ كفايته في النوم .
وصل إلي شركة والده التي أصبحت ملكًا له بعد وفاة أسرته .
دخل إلى مكتبه لتتبعه سكرتيرته ” تيا ” ليردف كنان :
– أحضري لي قهوة .
اومأت برأسها وقالت :
– حسنًا سيدى سأحضرها حالاً .
جلس على مقعده ، وبالفعل دقيقة ، أو ربما دقيقتين – لم يشعر بالوقت – حتي دخلت هي تحمل له قهوته .
وضعت تيا القهوه أمامه وقالت :
– تفضل .
- شكرًا ، أطلعيني على جدول اليوم من فضلك .
فتحت تيا الدفتر فى يديها وقالت:
– لدينا اليوم اجتماع مع الوفد الإيطالي لإنهاء الصفقة الجديدة ، وهناك الأوراق تحتاج الى توقيعك ، وقد أحضر الساعى البريد يجب أن تطلع عليه ، هذا كل ما لدينا اليوم .
- حسنًا ، أحضري البريد والأوراق التي سأوقعها .
خرجت من مكتبه وهي تتنهد وتخرج أنفاسها ببطئ ، فهي حزينة علي حالته تلك ، لا يعجبها التغير الطارئ عليه ، فشخصية كنان السابقة غير الحالية تمامًا ، وما يزعجها أكثر هو توقفه عن الغناء ، واختفاء بسمته الرائعة ، لطالما كان كنان يمثل لها أهمية في حياتها .
أحضرت له ما طلبه منها وتركته له على مكتبه وخرجت لتكمل عملها .
بينما هو مازال شاردًا ، واقعًا في حيرته عن هذا المنام الغريب ، تنهد بضيق ونظر أمامه فوجد الأوراق التي طلبها على المكتب
فحدث نفسه بشرود ” ألهذه الدرجة كنت شاردًا ولم أشعر بها ، حسنًا لا بأس ، لأنهي أعمالي الآن واترك التفكير لوقتٍ لاحق ”
انشغل كنان في عمله ليشغل عقله عن التفكير في أمور لا طائل منها ، حتى سمع طرق الباب ليسمح للطارق بالدخول والذي لم يكن سوى صديقه .
فقال له أيهم عابثًا :
– السيد مشغول أهملني للغاية .
رد عليه كنان بنبرة إعتذار :
– عذرًا ولكن انت تعلم… .
قاطعه أيهم قائلًا :
– أنت تعلم أنني أعمل الآن والشركة تأخذ كل وقتي ، حسنا انا أعلم هذا العذر .
نظر كنان فى ساعته وقال مشاغبًا صديقه :
– ومن حسن حظي أيضًا أنني راحل الآن لدي عمل بالخارج .
قال ايهم متأففًا :
– ليس مجددًا .
- أعتذر منك حقاً ، لكن أنت تعرف العمل .
اومأ أيهم رأسه بتفهم وقال مبتسمًا :
– لا بأس أراك غداً إذًا ، إلى اللقاء .
حياه كنان بإبتسامه هادئة :
– إلي اللقاء .
بعد ساعة كان يجلس كنان برفقة تيا والوفد الإيطالي في أحد المطاعم .
كان كنان يجيد اللغة الإيطاليه بطلاقة ، فهو إلى جانب حبه للغناء واصراره على تعمله باحترافية أصر على تعلم الكثير من اللغات ، حتى يستطيع أن يغني بكل لغات العالم .
فقام بتحية رئيس الوفد :
– Ciao signor Alberto
( مرحبا سيد ألبرتو )
رد عليه ألبرتو بابتسامة :
– Benvenuto in Sayed Kanan … Sono onorato di conoscerti
( أهلا بك سيد كنان …تشرفت بمعرفتك )
- Sono di più
( انا اكثر )
قال البرتو موجهآ حديثه لكنان :
– Sono molto felice di lavorare con la tua azienda e spero che sarai come pensiamo di essere
( انا سعيد للغاية للعمل مع شركتكم وأتمني أن تكونوا عند حسن ظننا بكم )
قال كنان مطمئنًا إياه :
– Non preoccuparti … Mr. Alberto La nostra azienda è famosa e ha il suo nome sul mercato
( لا تقلق سيد ألبرتو فشركتنا معروفة ولها إسمها في السوق )
رد عليه ألبرتو :
– Mi fido di te
( وانا أثق بك )
انتهي الإجتماع ووقع عقود الصفقة ، بينما هي بجواره تنظر له بإنبهار من فصاحته في اللغة وقدرته علي الإقناع .
في طريق العودة ظهرت أمام سيارته فتاة بثوب أحمر ، لينظر لها مندهشًا فهي نفس الفتاة التي بأحلامه ، يشعر أنه رآها
سابقًا ، في الحقيقة ولكن لا يعلم أين ومتي !؟ .
أوقف السيارة وهو مازال ينظر لها لتشير له بيدها أن ينزل من سيارته ، ففعل ما أرادت وما أن اقترب منها حتي اختفت وهي تبتسم ، ليلتفت حوله ناظرًا في كل الإتجاهات ولكنه لا يجدها .
غلغل أنامله في شعره منزعجًا يردف بضيق:
– وأصبحت أتخيلها أمامي أيضًا ، هنيئًا لك الجنون كنان