الفصل الثالث
الحياة ضرب من جنون..
مهما بلغت درجة تعقلك يا صديقي..
فأنت مجنون من نوع خاص..
لكل منا جنونه الخاص يتميز به عن غيره..
فالعالم عبارة عن مشفى مفتوح أسواره..
ونحن مرضى.. .
التخيل .. التهيؤ ، شعور سيئ فأنت لا تدري حقيقة ما تراه ، هل هو صحيح أم عقلك الباطن يصور لك أحداثًا واهية ؟! ، هل هي مجرد تداخلات صورها العقل في صورة أحداث لنصدقها ونؤمن بحقيقتها ؟! .
بدأ عقل كنان يفكر في أمر تلك الفاتنة التي ترفض حتى تركه في أحلامه ، وتغزو حاضره لا تنفك تبتسم له ثم تختفي ، حتى شعر أنه أصيب بالجنون وأنها فقط من تخيلات عقله الباطن لشعوره بالوحدة عقب وفاة أسرته ، وعند ذكر أسرته بدأت الدموع تتجمع في عينيه حتى أنه لم يسمع صوت طرق الباب ولا بدخول تيا القلقة من مظهره ، فرؤيتها له شاحبًا صباحًا أنبئها بإحتمالية مرضه .
بعد عدة طرقات على الباب ودون إستجابة منه قررت تيا الدخول لتجده شاردًا وكأنه فقد الإحساس بالوقت ، اقتربت منه بحرص لتري عيناه تلمع بدموع ، يبدو أنه لم يشعر بتجمعها بعينيه ، لتهمس بصوتٍ هادئ :
– سيد كنان ؟ .
لم يرد عليها لتردف بصوت أعلى قليلاً من سابقه :
– سيد كنان ؟ .
أنتبه كنان لها ورفع وجهه إليها ، ليُصدم من رؤيتها له بحالته تلك ، فوقف منتفضًا من مكانه ويعطيها ظهره رافعًا وجهه لأعلى كي يمنع تلك العبرات من الهبوط ويمسح على شعره بإنزعاج .
ودقيقة حتى هدأ نسبيًا ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة فهو لم يمهلها وقت حتى إنفجر في وجهها صارخًا :
_كيف دخلتي إلي هنا بدون إذني ؟ .
وقبل أن يعطيها فرصة للرد كان يداهمها مرة أخرى قائلا :
– لم أسمح لكِ بالدخول فكيف تعطين لنفسك الاذن بفعلها ، اسمعي يا أنسة أكره التطفل وهذا آخر إنذار لكِ ، فهمتي ؟ .
أومأت له بصمت ودموعها تهبط على وجنتيها
حتى غادرت مسرعة من أمامه تخرج من مكتبه ودموعها تكفي أنهارًا .
دخلت مكتبها وأغلقت بابه لتستند عليه بظهرها فتعلو شهقاتها وتزداد وتيرة بكائها .
بينما هو لم يكن أقل منها فهو أطلق وحش غضبه عليها بدون سبب ، ربما لأنه فقط يرفض أن يشهد شخص غيره على لحظات ضعفه ، لحظات إشتياقه ، لحظات
إحساسه بالندم والعجز .
ليطلق صرخة غاضبة ويطيح بكل ما فوق مكتبه أرضًا ، ثم يلتقط مفاتيحه وحافظة نقوده ويخرج من مكتبه بل من الشركة كلها كلإعصار .
قاد كنان سيارته دون شعور ، كأنها تعرف الطريق دون أدنى تحكم منه ، فقد ذهب إلى مكانه المفضل حيث يجلس مع أحبائه ويحادثهم ، يحكي لهم تفاصيل يومه واليوم لم يكن يختلف شيئاً عن سابقه .
جلس أمام قبر عائلته بنفس وجع قلبه ، كأن الايام لم تمر ، كأن ماحدث كان بالامس !! .
نظر إلى قبر والدته كأنه يراها أمامه ليحدثها والدموع تترقرق فوق وجنيته :
– اااه أمي ، أنا متعب للغاية وأشتاق لدفء وجودك أشتاق لأحضانك وتقبيل يديك ورائحة الياسمين وهي تملأ غرفتي صباحاً… .
أتجهت نظراته لقبر أبيه وأكمل :
-وأنت أبي ، أحن لأمانك ، في بُعدك أصبح ظهري هشًا ،وسندي ضعيف ، فأين القوة وأنت عني بعيد ؟! .
صمت قليلاً وقد هربت نظراته لقبر زهرته :
– وزهرتي الغالية ، جميلتي الصغيرة ، توأم روحي ورفيقة دربي ، أشعر بالفراغ من بعدكِ ، فهلا تعودين قليلاً ! ، أشعر وكأن الدنيا ألقت بي في ثقب أسود لا مهرب منه .
لترتفع الدموع الى شهقات يتقطع لها نياط القلب ليقول بصوت ميت :
– هل يرجع أحدًا منكم مرة أخرى ؟! ، أخبروني هل سيظل قلبي
يآن هكذا ؟ ، هل ستظل روحي متعبة ؟ ، أتمنى لو مت بدلاً عنكم ، فأنا أتعذب الآن .
حل المساء ، والليل يستر ما لا تراه العيون ، لتبقي النجوم شاهدة والقمر سارح .
بردائه الأسود وغطاء وجهه يتحرك بخفة لينطلق بين الأزقة عسى أن يجد ضحيته اليوم ، وبالفعل لم يبحث طويلاً وضحيته هذه المرة لم تكن سوى رجلاً مخمورًا تفوح منه رائحة الكحول يترنح في مشيته وكاد يسقط أكثر من مرة ليقف أمامه يسد عليه الطريق بجسده ، رفع الرجل نظره
إليه يردف بنبرة مهتزة :
– من أنت يا هذا ! .
أبتسم له بدوره وأردف بنبرة واثقة :
– أنا الموت ! .
وعلى الرغم من حالة اللاوعي المنغمس بها الرجل ألا أنه أرتعد من نظراته ويبدو على ملامحه الرعب ، بينما الآخر يرفع يده فتظهر ورقة من بعيد تراها ورقة تشبه أوراق اللعب مرسوم عليها رمز جمجمة مقسومة نصفين يتخللها قبضة يد تسيل منها دماء ! ، ألقى الورقة بإتجاهه وفي لحظات كان الرجل ملقى على الأرض ورأسه مفصولة عن جسده .
ابتسم الآخر بثقة رافعًا عيناه – المتغير لونها للأحمر الدامي – ورحل كأن شيئًا لم يكن !! .
في نفس ذلك الليل ، بعد رحيل بنان وعمار مساءً – فعادتهم يلتقون للغداء مرة
أسبوعيًا مع تيم وخالته – دخل تيم غرفته مغلقًا الباب خلفه ، نظرته تغيرت ، ملامح وجهه تكفهرت ، انقلب حاله مئةوثمانون درجة..! .
أتجه للمكتب وجلس على مقعده يمسك بالصندوق الخشبي يفتحه ، أخرج منه صور تجمعه مع صديقيه ، ولكن نظره معلق عليها … هي فقط ، قلبه يصرخ بالألم لكنه يحبها ويشعر بالخواء لعدم قدرته على الاعتراف ، لا يعلم لمَ لم تحبه هو
، لمَ أحبت عمار مع أنه أكثر مرحًا وتوددًا معها فلماذا أحبته ولم تحبه هو ؟! ، الألم ينبع مع كل نبضة ينبض بها قلبه ، شعور بالنقص يلازمه ، فقدّ جزءًا من ثقته بنفسه ، وأنه لن يحظى بحب فتاةٍ ما لأنه ليس متكامل ، وليس به شيء يجذب الفتيات له ، فقط لأنها لم ترَه من الأساس ، فكيف يراه غيرها .
استمع لصوت طرق على بابه فأدخل الصورة بالصندوق وأغلقه ، ثم سمح لخالته بالدخول ، دخلت جوانة ببسمة على
ثغرها وقالت :
– ماذا يفعل حبيب خالته .
نظر لها تيم بعدما كست ملامحه المرح وأختفى لمعان الدموع بعينيه قائلاً :
– أفكر في سبب لعدم شجارك اليوم مع جيراننا.
لوت جوانة فمها بإمتعاض قائلة :
– ومن قال ذلك لقد تشاجرت ولكنني ذهبت لمنزلهم هذه المرة وأشبعتهم كلماتٍ سامة لعلها تأتي بنتيجةٍ ما .
ضحك تيم قائلاً :
– أتمنى أن أعلم ما سبب الشجار من الأساس .
- لا داعي لأن تعلم ، وهيا للعشاء .
قالتها بذات الإمتعاض ثم خرجت من الغرفة يليها تيم .
في صباح جديد ، و بشركة غياث ، تجلس تيارا خلف مكتبها تمارس روتينها اليومي وتنظر في ساعة يدها كل خمس دقائق ، يتشتت انتباهها من التفكير في تأخير رب عملها ، فهى لم تعهد فيه ذلك الأمر من قبل ، حتى هاتفه خارج نطاق التغطية !! .
أخذت تتحدث مع نفسها بقلق ونظرها معلق بالملف الذي بيدها ” قلبى لا يرتاح مطلقًا لذلك التأخير ، إن كان سيتأخر لخمس دقائق فقط لكان اتصل بي وأخبرني ، يكاد القلق يفتك بي ،قلبى يخبرنى أنه يفعل شيئآ متهورًا ”
رفعت نظرها عن الملف لتجد من يرفع حاجبه وينظر لها ، فصرخت في وجهه :
– ماذا ؟! .
- لاشيء لكن اعتقد انكِ…
صمت قليلاً وحرك يده بإشارة تفيد انها قد جنّت فرددت عليه بغيظ :
– البركة في صديقك ، الساعه العاشرة الآن ، لقد تأخر ساعتين كاملتين ولا أعلم أين هو ولم يتصل بي .
رد عليها براء ببساطة :
– إن كان هذا هو الأمر فأريحي عقلك من القلق هو لن يأتي غالبًا لمدة ثلاث أيام أو اكثر .
هبت تيارا واقفة وقالت بقلق :
– لماذا ؟! .
نظر لها براء بإستغراب وقال :
– لماذا كل هذا القلق؟! ، هو فقط يقول أن هناك اشياء في منزله تحتاج للإصلاح وهو يحب أن يفعل كل شيء بيده .
- لماذا كل تلك المدة ، هل سيبنيه من جديد !! ، حدسي يخبرنى أن هناك أمر آخر .
صمتت عن الحديث مع براء وحدثت نفسها بصوت خافت ” تبا لذلك القانون الذى لايسمح لى بقرأة افكارك … ”
-لا اسمع ماذا تقولين .
طالعته ببرود قائلة :
– شيء لايخصك .
وقف براء غاضبا من ردها وقال بإستياء :
– لا أعلم لماذا تعاملينني بهذه الطريقة وأنتِ تعلمين أني…
مدت كف يدها أمام وجهه وقالت بهدوء :
– لا تكمل من فضلك نحن في العمل وهذا الكلام لايصح هنا ، ومن فضلك اخرج ذلك الكلام من رأسك وإلا سترى رد فعل لا تتوقعه .
- انا لم أتطاول معكِ في الحديث ليكون هذا ردكِ ، أنا أريد أن أتزوجك ، ها أنا ذا قلتها صراحةً دون تليمحات .
ردت عليه تيارا بقوة :
– وها أنا أرفض أيضًا صراحةً دون تليمحات والصد بتهذيب .
عض براء على شفته السفليه بغيظ وقال :
– لماذا ؟! .
- شيء لايخصك .
-
هل هناك أحداً آخر .
-
أيضًا لا يخصك .
لوى براء فمه قائلآ :
– أعتقد أني علمت الجواب ، ألهذه الدرجة تحبيبنه !! .
قطبت تيارا جبهتها في تساؤل:
– من تقصد ؟! .
- حقاً تتسألين !! ، لكن ألا تعتقدين أن علاقة السكرتيرة برئيس العمل باتت فيلم قديم وممل أيضًا .
أغمضت تيارا عيناها وأخذت نفسًا عميقًا لتحاول ضبط أعصابها حتى لا تتهور عليه ويضيع كل شيئًا فى لحظه غضب ، وقالت بهدوء عكس البركان الذي بداخلها :
– لقد تعديت حدودك وأخشى عليك من أذيتي لك ، لذلك اخرج من هنا قبل أن أفقد أعصابي أكثر .
- هل قمتى بتهديدي الآن .
-
بل احذرك لمصلحتك ليس إلا .
-
بل خافي أنتِ ، وعندما يعود رويد تعتبرين نفسك مفصولة من منصبك .
شبكت تيارا ذراعيها فوق صدرها وقالت بثقة :
– أنصحك ألا تفعل ، أنت تعرف أستاذ رويد جيدًا ومع ماحدث لا أعتقد أنني التي سوف أرحل من الشركة .
نظر لها براء بغيظ ، جزء من حديثها صحيح فرويد أمس أعطاه تحذيرًا تجاهها ، لكن كبريائه لن يسمح ولن يتنازل ، ظل ينظر إليها من أسفل لأعلى وقال :
– سنرى .
ثم تركها ورحل ، سندت تيارا يدها على مكتبها وتنفست الصعداء بعد رحيله ، هو في الأخير صديق رئيسها وإذا حدث الإختيار بينهم ،فالبتأكيد كفه من ستميل .
ذهب كنان إلى شركته صباحًا وهو على نفس الحال ، فمساءً أيضًا كان يحلم بالكوابيس التي لا نهاية لها .
دلف إلى مكتبه ونظره عليها ليجدها منكبة على مكتبها تعمل ولا تنظر إليه كما لو أنها لم تشعر بوجوده .
أراد لفت إنتباهها لحضورة ولكن كبريائه يمنعه ، فدخل مكتبه وأغلق الباب خلفه بعنف لترفع عيناها تنظر لأثره المختفي بعينٍ متورمة نتيجة لبكاء ليلة طويلة .
دقائق وسمعت صوت هاتف مكتبها لترد ، فتجده يطلب منها أوراقًا تخص صفقة ما ، أغلقت معه وجهزت ما طلبه ثم ذهبت إليه .
وقفت أمام مكتبه وطرقت الباب ولم تدخل حتى سمعته يأذن لها بالدخول ، دخلت تيا وخطت تجاه مكتبه بخطوات ثابتة وتحدثت برسمية قائلة :
– تفضل سيدي هذة الأوراق المطلوبة .
كنان وقد استفزه أسلوبها :
– حسناً ضعيها هنا .
لتضع الأوراق أمامه وتردف بنفس الأسلوب :
– أي أوامر أخرى سيدي .
رد عليها كنان بحزم :
– لا ، تستطيعين الانصراف .
وقبل أن يكمل كانت تخرج من مكتبه وهي تتمتم بـ ” حسنًا ” ، نظر أمامه بصدمة لطريقتها الفظة معه كما لقبها ، ليهمس لنفسه قائلاً “ما الذي حدث الآن ، كيف لها أن
تتجاهلني هكذا ، لقد أصبحت فظة للغاية ”
، ولكنه عاد يلوم نفسه قائلاً ” أنا السبب في هذا ، لقد أحرجتها كثيراً معي ولم يكن لها
ذنب ”
ليفكر قليلاً هل يجدر به أن يعتذر لها … أم … لا هو لا يعتذر مهما حدث
فهو مديرها ، وهي فقط تعمل لديه .
انتهى عقله من التفكير واللوم ، ليضرب بكل العقل عرض الحائط ويخرج من غرفته ويقف أمام مكتبها لترفع نظرها إليه بدهشة من
خروجه هكذا ، وقبل أن تنطق كان يسبقها قائلاً بكلمات متلاحقة :
– حسنا تيا ، أعترف أني مخطئ ، وأني صببت جام غضبي عليك ،ِ لذا أنا أعتذر وأتمني ألا يتكرر هذا مجددًا ، حسنًا
انتهيت ، يمكنك العودة لعملك الآن !! .
انهى حديثه ودخل مكتبه بنفس السرعة ، لتنظر هي للباب بدهشة ما لبثت أن إنفجرت ضاحكة علي ما حدث من دقيقة .
بينما هو كان خلف الباب يستمع لصوت ضحكاتها فتعلو شفتيه بسمة هادئة .
وفي مكانٍ آخر كان هناك من يقف بسيارته أمام منزل صديقه ينتظره بوجه حانق ، صباحه من الأساس متعكر ؛ فاليوم خالته ليست بطبيعية ، فحينما رآها اليوم كان وجهها شاحب ونظراتها تشع بالخوف .
يشعر كأنها جنت ولا يعلم لماذا ، كانت الأمس سالمة وطبيعية بغضبها وصوتها المرتفع دائمًا ، لكن اليوم صمتها وهدوئها المريب يجعله تائهًا .
أخرجه من شروده دخول صديقه السيارة واغلاقه للباب هاتفًا به :
– هيا تيم فبنان تنتظرنا .
نظر له تيم بمرح مخفيًا ما بداخله كعادته يقول :
– ألا يوجد صباح الخير ، أم أن بنان استولت على عقلك بأكمله .
ابتسم له عمار ببلاهة وقال بهيام :
– بل استولت على قلبي يا رجل.. .
ضحك تيم على صديقه ناظرًا أمامه ينطلق بالسيارة ثم قال :
– متى سأحظى بعلاقة كعلاقتكما يا رجل ، أكاد أتعفن بينكم كالفتيات دون زواج .
ضحك عمار بدوره وقال :
– أصبر يا هذا ، فالله يحفظ لك نصفك الثاني ، وحينما يشاء ستلقاها دون أي مشكلة .
وعلى الرغم من بسمة تيم المرحة ألا أن بداخله يكاد يموت قهرًا ، فمن تلك التي ستنظر لرجل ليس متكاملاً وهناك من بهم أشياء مميزة عنه !! .
وصلا الى النادي ، فترجلا تيم وعمار من السيارة بعدما صفها تميم بمرأب النادي متجهين إلى ملعب التنس حيث توجد بنان ، وصلا للملعب وجلسا على المقاعد الملتفة حول الطاولة الموضوع عليها أشياء بنان ينتظرون إنتهائها من اللعب .
نظر عمار لبنان بعينان عاشقة بينما نظر له تيم بحنق قائلاً :
– ظللت تقول هيا لأن حبيبة قلبك تنتظرنا وها نحن ذا من ننتظر الأميرة كي تنتهي من اللعب .
لم يكن عمار يلقي له بالاً ، فزفر تيم ووقف من مجلسه يقول بضيق :
– سأذهب للسير قليلاً .
ثم غادر دون أن يعلم هل سمعه عمار أم لا ، فالغضب هاجم قلبه بشده وجعل صدره يضيق ، لم يعد يستطيع كتم غيظه وغيرته أمامهما أكثر من ذلك ، فهذا كثيرٌ عليه ، ولكن ما لا يعلمه تيم أن هذا الغضب ليس مصدره الغيرة أنما مصدره شيئًا آخر يفوق إستيعاب العقول !! .
عاد تيم لملعب التنس بعد مدة من سيره بمفرده ، فرأى من بعيد عمار وبنان يتحدثان مع بعضهما وأنامل كفوفهما تتشابكان ، فزفر بضيق يحاول كتم أنفعالاته إلى أن يذهب
لغرفته العزيزة ، لكن ما منع ذلك هو أرتماء بنان بين ذراعي عمار – الذي ضمها إليه بشدة – تقفز بمرح أثناء عناقها له وصراخها يصل له ببهجة :
– وأخيرًا ، وأخيرًا سنكون سويًا أستاذي العزيز .
توقف عن السير لبرهة يتطلع عليهم بتحفز ودماء تغلي ثم التفت يعود أدراجه ولكن ليس للسير أنما لسيارته كي يذهب
من هنا قبل أن يرتكب جريمة ، فهو غاضب للغاية ولأول مرة بحياته لا يستطيع التحكم بغضبه .
جلس بسيارته وأنطلق بها إلى منزله ليصدح صوت رنين هاتفه بنغمة مميزة تخص عمار لكنه لم يهتم بذلك بل زاد من سرعة سيارته تاركًا عمار يتصل به كما يحلو دون الرد عليه ، فهو إن رد الآن فحتمًا سيخسره وللأبد .
دلف للمنزل وأغلق الباب خلفه بغضب غير عابئًا لخالته الجالسة أمامه على الأريكة بوجه شاحب .
تعجبت جوانة من مظهره ، فهي لم تره قط بتلك الهيئة الغاضبة تلك منذ صغره ، حاولت محادثته لكنه سبقها بدخول غرفته ، وقفت من مجلسها ومازال وجهها شاحب وقلبها منقبض ، اتجهت لغرفته وفتحت بابها لتراه يقف أمام المكتب ويواليها ظهره وذراعه مرفوع كأنه ممسك بها شيء .
خطت إلى الداخل فرأت صورة تجمعه مع عمار وبنان رفعت حاجبيها بتعجب من هذا ، فهل سبب غضبه هما وحصلت على إجابة لسؤالها حينما مزق تيم الصورة بعنف ، شهقت جوانة بصدمة مما فعله فألتفت لها تيم بغضب فسارعت بسؤاله :
– مابك تيم ، لمَ أنت غاضب هكذا .
طالعها تيم بعينان تلمعان بوميض حاد يهتف :
– أتركيني خالتي ، أتركيني أنتِ الأخرى ، أتركيني كما فعلت هي .
لم تفهم جوانة منه شيء فأسرعت بإحتوائه وعناقه ولكن حدث العكس ، فضخامة بنيته جعلت منه يحتوي جسد خالته ، شدد من ضمها له يحاول التحكم بغضبه بينما هي أغلقت عيناها للحظات ثم فتحتها والغضب بدأ بالظهور عليها هي ، فتنهدت تحاول كتم غضبها ثم تمتمت ببضع كلمات لم تصل لأذن تيم .
لم تمر إلا لحظات حتى هدأ تيم من غضبه وأبتعد عن خالته يوليها ظهره ، يسب نفسه على إنهياره أمامها ، حاولت جوانة لمسه لكنه ابتعد عنها وقال بهدوء :
- أتركيني بمفردي خالتي .
فنفذت كلامه فورا دون مناقشة ، ما إن أُغلقت الباب حتى أمسك الصندوق الذي أمامه وقذفه على المرآة التي بخزانته فتهشمت إلى قطع حادة على الأرض .
استمعت جوانة لصوت تهشيم الزجاج لتقرر تركه كما قال ليهدأ ، وتدعو له .
بعد مرور عدة ايام لم تستطع تيارا انتظار رب عملها اكثر من ذلك فقررت الذهاب للقصر لتبين حقيقة حدسها الذي لم يكذّب يومًا .
في ليل الشتاء القارس كانت تيارا تقف أمام قصر عائلة غياث ، كم اعجبت به وبنائه وعلو قممه تلك التي تشبه قصور الملوك والأمراء قديمًا ، قصر يحمل فى طياته عصور تاريخية مختلفة ، كل جزء فيه يعبر عن حقبة ، إذا كان في خارجه يعطى عالمًا ، ففي أثاثه الداخلي وديكوراته يعطي عوالم أخرى منسجمة مع بعضها البعض كسيمفونية تطرب لها الآذان .
كان هدوء الليل قاتلاً فلم تسمع سوى أنين كلبه النائم ، تسللت من جواره ببطئ ووقفت أمام بوابه القصر الداخلية وبحركة واحدة من يدها فُتّح الباب على مصراعية ، كان
شكها في محله ولا يوجد أحد في المنزل ، الأضواء مطفأة ، صوت الليل وصريره يتنقل فى الأركان .
دخلت بهدوء وتجولت في الأرجاء ، لاتعلم لماذا أخذتها قدميها لباب القبو المكان الذي تمنت طوال الخمس سنوات السابقة أن تخطوه بقدميها ، هى تعلم بالتأكيد جزء عن الموجود بالداخل ولكنها تتشوق أن تراه بعينيها وتلمسه بيديها ، فتحته فأفضاها إلى ممر مظلم خطت أولى خطواتها فيه فأضاء بالتتابع حتى وصلت لآخره ووجدت بابا محكم الغلق .
حركت يديها كما فعلت بباب القصر ولكنه لم يُفتح ، نظرت يمينها ويسارها وتمتمت ببعض الكلمات ورددت بصوت مسموع ” إن رويد يحمى هذا المكان جيدًا ضد أى دخيل ، لكن هذا المكان بالتأكيد يستحق ” ، فركت يديها ببعضهما البعض وقالت بابتسامة ” لا شيء يَصعب على تيارا ” .
ضغطت على زر بجانب الباب لتظهر لوحة مفاتيح ، لوحت بكفها فوقها لتظهر بعض العلامات على بعض الأزرار بكلمة السر الخاصة بالدخول ، شرعت بالضغط عليها حتى وجدت من يهتف باسمها قائلاً بصوت حاد :
– ماذا تفعلين هنا ؟! .
تصلب جسدها تبتلع ريقها ببطئ وأغمضت عيناها خوفًا مما هو آتٍ.. .