الفصـل الخـامـس
و في اليوم التالي حدث ما غير مسار كل شيء .. فلعب القدر لعبته ليثبت لياسر أنه كاذب ..
فبينما يجلس ياسر مع سارة كعادته .. مَرت بهم ندي و رمقت ياسر بنظرة عتاب تجاهلها كما يتجاهل ندي تلك الفترة .. فتركته ندي و انصرفت لتحضر – السيكشن- حتي لا تتأخر علي ميعاده .. فياسر لم يعد معها و لن يهمه أن تتأخر هي أو لا تتأخر .. فمن الواضح أن شأنها كله لم يعد يعنيه في شيء ..
، ثم قالت لي أنها ستذهب لتحضر المحاضرة و ستقابلني في – كافتريا – الكلية بعد انتهائها .. و بالفعل قمت بإنهاء بعض التقارير لحين خروجها ..
و بعد مرور نصف اليوم .. بدأت أشاهد مجموعتها تخرج من – السيكشن – حتي رأيتها تخرج ذابلة ، كوردة اُقتلعت من أرضها عنوة ..
سألتي يومها سؤال حرك الألم بين أضلعي ..فقالت لي
لما لا اّري أمامي رجلاً غـيره .. و لا يغريني وطناً سواه لأتوطن به .. ؟!
و لطالما اّلمني تذبذبه بيني و بين بلاد اّخري لم تكن يوماُ موطنه ..
و إن راّني يوماً وطناً سيغريه احتلالي و نهب خيراتي ثم سينتقل لغيري ..!
فيغريني اللجوء إليك كوطن .. و يغريك احتلالي كعـدو !
—————————————————————-
، ثم بعد ذلك تذكرت ندي أنها نسيت حقيبتها في معمل العلوم ..
فطلبت مني أن انتظرها حتي تحضر حقيبتها لنغادر الكلية سوياً ثم دلفت إلي المعمل لإحضار حقيبتها و من دون قصد كسرت بعض الأواني التي تحتوي علي مواد قابلة للإشتعال ..
و فجأة سمعنا صوت صراخ قادم من الدور الثاني حيث معمل العلوم و فجأة أصبح الكُل يركض بإتجاه مصدر الصوت .. فكانت الأدخنة تعبق المكان فتكونت سحب منها انتشرت في جميع أرجاء الكلية ،ثم ارتفع صوت واحد من أفراد الأمن بأن ُهناك حريق في المعمل ..
فوجدت نفسي اصرخ أنا الاّخري .. ندي كانت في معمل العلوم فليساعدنا أحد ..
حاول حارس الأمن منعي من التحرك .. و قال لزملائه فليتصل أحد بالمطافيء أو النجدة ..
فكأنها كانت تلك اشارة من الله ،ليظهر ياسر ما كان يخفيه و يثبت أن كل تجاهله لندي .. كان ورائه حب عظيم ..فلأول مرة يذيقه الله مرارة التعلق !
أما ياسر فبمجرد أن سمع أن ندي داخل المعمل ، فاندفع بسرعة كبيرة لدرجة أنه أوقع كراسي الكافيتريا من شدة الإندفاع دون أن ينتبه .. فكان بعينيه نظرة خوف كأنه لا يستوعب ما يحدث حوله ، فوقف لبرهة ثم اندفع نحو السلم .. ففي البداية حاولت سارة أن تمنعه خوفاً عليه لكنه دفعها بعيداً لدرجة أنها سقطت علي الأرض.. ثم تجمع حوله أفراد الأمن و حاولوا منعه بالقوة من التقدم و حذروه من خطورة ما يفعله علي حياته فالحريق كبير فوق ، و لم يعبأ ياسر بكلامهم فاستطاع بقوة جسده أن يدفعهم فلم يستطيعوا السيطرة عليه .. فتبعته حتي الدور الثاني و لكنه منع تقدمي أكثر من ذلك ..
فعند باب المعمل كانت النيران مشتعلة ، فحاول حراس الامن منع ياسر مرة اّخري و لكنه حمل أحد الكراسي الموجودة أمام الباب و حاول كسره و لأول مرة كنت اّري ياسر يبكي بحرقة و يردد ” يارب ” و كانت تلك المرة تخرج من داخل قلبه و ليس بحكم العادة .. حتي كسر الباب بالفعل .. !
و لحسن الحظ كانت النيران لم تزدد حدتها بعد ،فاستطاع أن يدخل ياسر.. و عندما دخل وجد ندي بعيدة عن النيران ، لكنها كانت فاقدة الوعي من الدخان فحملها و خرج مُسرعاً .. فكان يتشبث بها و هو يحملها و ينزل علي الدرج .. كمن يُمسك باّخر أملاً لديه ..
كان يبكي بشدة فتسقط دموعه علي وجهها ، و كأن دموعه تخرج بين عينيها هي ..!
و بمجرد أن ابتعد بها عن مكان الحريق .. وضعها علي الأرض و بدأ يطمئن أن مازال بها نبض .. و كأن الله أنبتها لتجري بشريانه ..!
و عندما اقتربت منهم ، كانت ندي شاحبة للغاية فطلبت منه أن نحملها إلي العيادة الطبية بالجامعة حتي تأتي النجدة .. فهو كان في وضع لا يسمح له بالتفكير ..
فحملناها سوياُ حتي العيادة .. فكانت العيادة عبارة عن غرفة استقبال كبيرة و غرفة في مواجهة الباب كبيرة جدا مقسمة من الداخل لتكون ثلاث غرف صغيرة ..
،و بمجرد أن راّنا الطبيب نحمل ندي ، أشار إلي إحدي الغرف و طلب منا أن نُدخلها فوراً .. فحملها ياسر ووضعها علي السرير ، و بمجرد أن علم الطبيب بما حدث .. وضع لها قناع التنفس ..
و مَر بعض الوقت .. و أصبح لون الحياة يعود لها رويداً رويداُ ، و كان ياسر يراقبها فكأن الحياة تعود له بعودة اشراقتها ..
، ثم بدأت غرفة العيادة تزدحم حول ” ندي ” .. فانزعج الطبيب و قرر طرد الجميع حتي لا يؤثر ذلك علي صحتها ، و لكن ياسر ثار بشدة و رفض الخروج ..
فسمح الطبيب بوجودي انا و ياسر فقط معها ..
و لازلت أتذكر كيف كان ياسر يبكي بحرقة بجانبها ، حتي استعادت وعيها و رفعت القناع .. فحينها فقط رأيت بعينيه ابتسامة لم اّراها من قبل فكأن الزهور تنبت بروحه و تمتد فروعها حتي تشرق من عينيه ..
، و عندما استعادت وعيها بالكامل .. بدأ الطبيب بفحص نبضها ثم أبتسم لها و قال حمداً لله علي سلامتك ، ثم نظر لياسر بإبتسامة .. نظرة ذات مغزي و قال لها ..
” الفضل له بعد الله في نجاتك .. لقد غامر بحياته لإنقاذك لولاه لكنا الاّن نترحم عليكي .. ”
، و كانت ” ندي ” مازالت مُتعبة و خائفة مما جري .. لكنها رفعت عينيها إليه في وهن و ابتسمت ابتسامة متعبة ..
فدنا ياسر منها قائلاً .. كُنت أعلم أني اُحزنك كثيراً .. و لكن هل ذلك سبب مقنع لأن تقومي بحرق الكلية بأجمعها .. لما أنت ِ يهودية الغضب إلي تلك الدرجة ؟!
، و رغم أنها كانت مرهقة .. إلا أنها انفجرت ضاحكة ..
ثم أكمل ياسر بجملة أثارت دهشتنا .. فقال لها
” و لكني اعتقد أن ما فعلته معكِ اليوم .. سيجعلك تغفرين لي حتي نتزوج ..!”
و رغم شدة ما بها .. اعتدلت ندي في جلستها وجحظت عيناها .. و قالت بإرتباك .. نتزوج ؟!
ضحك ياسر ضحكة رجت أركان المكان و قال .. “ندي إن لم تكوني حمقاء فبالتأكيد لاحظتي أني أحبك ”
كانت ندي تنظر له بدهشة شديدة و كأنها مازالت في تخاريف التعب ..
، و لكن سرعان ما تبدلت الفرحة بعين ياسر و حل مكانها شيء من الحزن و قال ..
” ندي .. دعينا نتحدث الاّن بجدية .. أعلم انك لاحظتي في الفترة الماضية أني معجب بك بل هو أكثر من الإعجاب أنا أحبك يا ندي .. أما تشتتي فيما بعد لم يكن سوي خوفاُ عليكِ يا ندي .. أنا أخشي عليكِ مني .. فسادي لا يناسب طهرك ، فشخص مثلي بالكثير يتسكع مع من هي مثل ” سارة ” .. أما أنتي فلا أتخيل يوماً أن اؤذيكي .. أنتي كثيرة جدا عليّ .. بل أنتي كثيرة علي أي شخص في العالم .. فكنت أعلم حين رأيت الجملة التي تكتبيها دائماُ علي مواقع التواصل ..” بأن لو خالط ملاك يوماً واحداً مني بني شيطان ، سينال الشيطان شيئاً من نوره حتي لو كلف ذلك الملاك حرق جناحيه !” .. أنكِ تقصديني ..
و لكني اقسم لك إن العيش بالعتمة هو أهون عندي من أن يصيبك شيء بسببي .. و إن العمي بالنسبة لي سيكون أهون من حرق أجنحتك يا ملاكي و ملاذي ..
و لكن ما حدث اليوم هو ما أجبرني علي البوح لكي ..فأنا أريد أن أكمل ما تبقي لي من العمر معك ..
و لكن كيف اجرؤ علي الإقتراب منك و ليس علي جبيني علامة صلاة ..
قولي لي كيف أقترب و الحياة قصت لي أجنة برائتي منذ زمن .. ؟!
فأنا أسوأ مما تتخيلي ، و أخطر عليك ِ مما تظني
فهل التوبة كافية لكيّ يتطهر أبليس .. و يُسمح له بالعودة لمحرابك من جديد ؟!
، فطالما احتجت أن أعبر لكِ عن حبي .. ببعض الجمل البسيطة
التي ليس بها كثيراُ من الإبهار ..
و لكنها تحمل شعوراُ صادقاُ و كثيراُ من المعاني ..
، كطفل صغير مازال يتعلم الكلام .. لا ينطق سوي ” أمي ” بحروف تتعلثم بين شفتيه .. و رغم بساطة الكلمة إلا أنها لا تعجز أن تحرك قلبك ..
، فالكل يدري أنه لا يري سواها ..
أريد أن أحبك بطهر و قلب طفل .. فهل تسمحي لي .. ؟! ”
و أمام كلماته تلك لم يكن أمامنا سوي أن تتحرك قلوبنا لها .. فكانت الدموع تترقرق بأعين ندي و لم يسعها القول سوي ..
ندي : إن كنت أعلم أن إحراق الكُلية سيأتي ثماره .. لكنت أحرقتها مُنذ زمن ..
ضحك ياسر علي كلام ندي و عاهدها أمامي أن يُقلع عن كل ما يفعله و يتوب إلي الله .. و بالتأكيد أول المعاصي التي سيقلع عنها “سارة” .. فالغيرة في شرع النساء هي أكبر الخطايا ..
ثم في نهاية اليوم استعادت ندي عافيتها .. و قمت أنا و ياسر بتوصيلها إلي المنزل ..
و لا اّدري حقاً هل استعادت عافيتها بفضل قناع التنفس أم أن كلمات ياسر كان لها وقعاُ أكبر عليها ..؟!
———————————————————————
وعندما أنتهي اليوم عاد أحمد إلي المنزل و أثناء مروره بغرفة ياسر ، سمع ياسر يبكي بحرقة و يتحدث بكلام غير مفهوم مرة اّخري ..
ياسر: أنا خلاص بطلت أكلم أي بنات تانية .. عمري ما هنساكي .. الحياة صعبة .. ليه علقتيني بيكي و مشيتي .. مشيتي ليه ؟! .. طب ردي عليا قوليلي مشيتي ليه ؟! .. أنا كنت وحش أوي كده ؟! .. فعلا انا كنت وحش كدبت عليكي فكل حاجة .. إلا لما قولتلك أني بحبك .. انا عمري ما حبيت حد كده .. أنا عمري ما حبيت حد اصلا!
ليه لما بقيت كويس فعلا ، مرضتيش ترحميني ؟! ….و مش عاوزة ترجعي ؟!
———————————————————————-
و فجأة فتح ياسر باب غرفته و خرج دون أن ينتبه لأحمد حتي و غادر المنزل ،وحين دخل أحمد غرفة ياسر وجد .. يــُـــتبع !