وانحنت لأجلها الذئاب
الفصل السابع والعشـــرون ( الجزء الثاني ) :
في منزل تقى عوض الله ،،،
شهقت تهاني مصدومــــة حينما رأت أوس أمامها ، وشعرت برجفة تجتاحها من هيبته التي تفرض نفسها تلقائياً في أي مكان يظهر فيه ..
إبتلعت ريقها بخــوف ، وحاولت أن تستأنف حديثها ، ولكن تجمدت الكلمات على شفتيها .. لقد ظنت أنه جـــاء ليكمل عتابه اللاذع لها بسبب ما فعلته مع ابنتها ليــان ، واصطحابها لقصر أبيه ..
رمقها أوس بنظرات غريبة استشعرتها ، ثم استطرد قائلاً بجمود ليقطع حاجــز الصمت :
-عاوز أدخــل أوضــة تقى !
تعجبت من طلبه المريب ، وهتفت بلا تردد :
-آآ… اتفضل يا بنــ..آآ..
تلافت سريعاً خطئها ، وتابعت بحذر وهي تشير بيدها بعد أن أفسحت له المجــال للمرور :
-قصدي يا أوس باشا ، ده بيتك !
مــرق إلى الداخـــل ، ووقعت عينيه على فردوس .. فضاقت نظراته ، ورمقها بنظرات إحتقارية ، ثم تابع قائلاً بصوت قاسي وهو يشير بإصبعه :
-ليكي حســـــاب معايا !
ســـال لعاب فردوس بفـــزع عقب جملته الأخيرة ، وإرتعشت في مكانها مصدومة .. وتسائلت مع نفسها بهلع ، هل سمع حديثها مع أختها ، وعــرف بكل شيء تفوهت به ..
سيطر الخوف عليها ، وزادت رجفتها وهو تتوقع الأســـوأ منه ..
نظرت لها تهاني بذهـــول ، وأيقنت من كلمات ابنها المقتضبة أنه ينتوي شراً لأختها ..
خطــى أوس بخطوات ثابتة إلى داخـــل غرفة تقى ، ثم بحث بعينيه بدقـــة عن فردة الحذاء الأخــرى ، وبالفعل وجدها موضوعة بجوار الوســـادة على الفراش الذي يتوسط الغرفة ، فإلتوى ثغره بشبح إبتسامة رقيقة ، لكن سريعاً ما تلاشت ليحل محلها التجهم والعبوس ..
إقترب من الفراش ، ثم إلتقطها بيده ، ودسها سريعاً في جيبه ، وكأنها كنزه الثمين الذي يخشى ضياعه .. وتحرك مبتعداً عن الفراش ..
دلفت تهاني إلى داخل الغرفة خلفه ، وتنحنحت بخفوت وهي تشرع حديثها قائلة بصوت متحشرج :
-أنا .. أنا كنت عاوزاك تسمعني قبل ما تمشي
إلتفت أوس نحوها ، ورمقها بنظرات جــــامدة دون أن تتبدل تعابير وجهه المتجهمة ..
إزدردت ريقها بصعوبة ، وتابعت بنبرة شبه مختنقة وقد لمعت عينيها بوضوح :
-أنا عارفة إني غلطت ، ومكنش ينفع أخد ليان عند أبوك ، وبأعترف بده بس .. آآ..
تقطع صوتها وهي تتوســـله :
-بس بلاش تحرمني منها ، دي بنتي الوحيدة ، أنا ماستهلش إنك تعمل فيا كده !
دنت منه لتضيف بإستعطاف وقد إنهمرت العبرات من مقلتيها :
-أرجوك ، عشان خاطري ده لو كان ليا عندك خاطر ، طب .. طب أقولك على حاجة ، اعمل اللي انت عاوزه فيا ، بس متحرمنيش منها ، دي الحاجة الوحيدة اللي فضلالي ، كفاية إني خسرتك ، فبلاش هي كمان ، أنا .. أنا ممكن أموت فيها !
لم تتبدل نظراته ، وظلت تعابير وجهه على وضعيتها القاسية ..
ظنت تهاني أنها سيرفض طلبها ، فتلفتت برأسها بصورة هيسترية وكأنها تبحث عن شيء ما ، حتى ثبتت أنظارها على الحقيبة التي تحوي الأوراق الهامة .. فركضت نحوها ، وأمسكت بها لتفتحها ، ثم أخرجت ما فيها من أوراق مطوية ، وألقت بالحقيبة على الأرضية ، ووقفت قبالته مرة أخــرى ، ورفعت يدها بهم ، وإستعطفته بنبرة ذليلة وهي تطالعه بعينيها الباكيتين :
-خد الورق ده ، أنا مش عاوزاه خلاص ، اعمل فيه ما بدالك إن شاء الله حتى تحرقه ، بس بلاش تحرمني من ليــان ، أنا مايهمنيش اكون بريئة قصاد الناس ، أو حتى كرامتي ترجعلي ، أو الناس تعرف إن مهاب مجرم ، كل اللي يهمني انتو وبس ، أيوه ، إنتو عندي بالدنيا ، إنتو أغلى من نفسي !
ثم مــــدت يدها لتسحب كفه ، ووضعت بهم الأوراق ، ورمقته بنظرات أكثر رجاءاً ، وأضافت بشجن :
-خدهم ! بس رجعلي ليــان !
قبض أوس على الأوراق بكفه ، ولم ينبس ببنت شفة .. ولكنه شعـــر بغصة مريرة ، وبضيق في صدره ..
هو بــات متيقناً من ندمها الحقيقي ، ومن مشاعرها الصادقة كــأم ..
ورغم هذا رفض أن يبوح بما في صدره ..
استشعرت تهاني أن قلبه ربما سيرق من أجلها وسيرتضي بتلك المقايضة التي ستكلفها كل شيء .. لكنها راضية بها طالما ستعيد ابنتها إلى أحضانها ..
تفاجئت هي بــه يزيحها بقبضته الأخــرى عن طريقها ليتحرك نحــو الخـــارج ..
شهقت بأنين وقد ظنت أنه رفض توسلاتها ، ونبذ رجائها .. ثم وضعت يدها على فمها لتبكي بحســـرة وخــزي ..
هبت فـــردوس في مكانها مذعـــورة حينما رأت أوس واقفاً قبالتها .. ونظراته المشتعلة تكـــاد تفتك بها ..
حـــاولت أن تحافظ على رباطة جأشها أمامه ، ولكن الخــوف كان بادياً في نظراتها الزائغة ..
إرتجفت شفتيها وهي تنطق بتلعثم :
-أنا .. آآ.. كنت .. آآ
ولكن باغتها أوس بصفعة مدويـــــة على صدغها ، فصرخت متأوهة منه .. ونظرت له بذهــــول حقيقي من عينيها الجاحظتين ، وأسندت يدها عليه لتتأكد من فعلته … وهمست مصدومة :
-انت .. انت بـ.. بتمد ايدك عليا ؟
رفع أوس إصبعه في وجهها ، وهــــدر بها بنبرة عنيفة وهو يحدجها بنظرات محتقنة للغاية :
-اييييييه وجعك ؟
باغتها بصفعة أخــــرى أشد قسوة على يدها الموضوعة على صدغها ، فإنتفض جسدها ، وأضـــاف قائلاً بصوت متصلب :
-عاوزك تعرفي إن ده جزء على مليون من اللي هاعمله فيكي !
ذهلت من تكراره للصفعة ، وهتفت بإندهاش :
-إنت .. آآ..
تابع أوس قائلاً بنبرة عدائية للغاية وقد تحولت مقلتيه لجمرتين من النيران الملتهبة :
-هاخليكي تحسي بكل ثانية إتألمت فيها تقى بسببك !
عجزت عن الحديث ، وإرتعدت أوصالها بشدة ، وكافحت لتقول :
-آآ..
هـــدر أوس صارخاً بعصبية :
-يمكن هي في يوم تسامحك ، وتنسى ، بس أنا غيرها ، لا بأعرف أسامح ، ولا بأعرف أنسى اللي يجي على اللي يخصني !
ردت عليه فردوس بنبرة مرتجفة للغاية :
-إنت .. مش فاهم حاجة ، أبوك هو اللي آآ…
قاطعها بصراخ أعنف وهو يشير بإصبعه المتصلب :
-بــــــس ، ماتفتحيش بؤك خالص ، انتي تخرسي وتسمعيني كويس !
إنتفضت من صراخه ، ورمقته بنظرات خائفة ..
ضغط أوس على شفتيه بقوة ، وأكمل بصوت محتد :
-أنا مش زي جوزك طيب وفي حاله ، ولا زي تقى ، ولا حتى زي مهـــاب اللي اتفقتي معاه على مراتي !
اقترب منها حتى باتت تشعر بأنفاسه الغاضبة على وجهها ، وتابع قائلاً ببطء وهو يضغط على كل حرف :
-أنــا أوس الجنـــدي !
أغمضت عينيها هلعاً ، وأرجعت رأسها للخلف وهي تحاول المدافعة عن نفسها قائلة :
-هـو ضـ…. آآ..
أطبق أوس على عنقها ، وضغط عليه بأصابعه المتشنجة ليخنقها ، فإنفرجت شفتيها محاولة التنفس ، وجحظت بعينيها برعب .. وشعرت بالدماء تتدفق بغزارة إلى عقلها ليزيد من صداعها المهلك
كـــز هو على أسنانه ، وتابع بنبرة قاسية :
-كان ممكن ببساطة تيجي تبلغيني بإتفاقكم الوســخ ، وبدل المليون اللي رمهالك ، كنت هاديكي 10 مليون غيرهم !!
وضعت تهاني يديها على صدرها من الخــوف بعدما رأت ابنها وهو على وشك الفتك بأختها .. وهزت رأسها بصورة هيسترية مستنكرة هذا ورددت بهلع :
-لألألأ .. !
أطلقت عيني أوس شرر مخيف وهو يكمل بغلظة :
-ولو حياة بنتك ماتسواش عندك إلا مليون ، فأنا سلامة تقى عندي مايكفيهاش فلوس الدنيا كلها !
ثم أرخــى قبضته عنها ، ودفعها بعنف للخلف ، فسعلت لعدة مرات بحشرجة كبيرة ..
أشـــار لها بإصبعه مهدداً مرة أخـــرى :
-انتي هاتعرفي يعني إيه وجع وعلى إيدي !
نظرت له من طرف عينها ، وأردفت قائلة بندم زائف:
-حــ.. حرام عليك ، ده .. ده أنا أم وآآآ…..
قاطعها بصوت هـــــادر وقد تشنجت تعابير وجهه للغاية :
-اخــرسي ، كلمة أم تمسحيها من قاموس كلماتك خالص !
ثم إلتفت نحـــو تهاني ، ورمقها بنظرات جادة قبل أن يتابع بتهكم :
-أومـــال دي اسميها ايه ؟؟ اللي مستعدية تعمل أي حاجة عشان بس أضحك في وشها ! وأوافق بنتها تاخدها في حضنها ؟
استعطفته ببكاء مصطنع :
-ده أنا خالتك ، يعني .. يعني في مقام أمك دي
هــــدر بها بإنفعال وهو يلوح بذراعه مهيناً إياها :
-متقارنيش نفسك بيها ، إنتي تتحطي تحت جزمتي ! وادهسك !
استفز فردوس تحقيره لها ، فصاحت محتجة بشجاعة زائفة :
-انت مفكر نفسك ملكت الدنيا بفلوسك ، لأ أنا أقدر آآ…
قاطعها بسخط وهو يحدجها بنظرات إزدراء :
-خلي تهديداتك لنفسك .. أهي تشجعك لأنك هتحتاجيها الأيــام الجاية !
سألته متوجسة وهي تبتلع ريقها :
-قصدك ايه ؟
حدجها بنظرات أخيرة مشمئزة ، ولم يجبها بل ترك الأمـــر لمخيلتها .. ثم أولاها ظهره ، واتجه نحو الباب ..
تابعتهما تهاني بصـــدمة ولم تستطع النطق بكلمة ، وتعلقت نظراتها به وهو يتحرك نحو عتبة المنزل ، ولكنه توقف عن السير ، وإستدار برأســه للخلف ، وإلتقط نظراتها المحدقة به ، ثم حدثها قائلاً بنبرة متصلبة وهو يطالعها بنظرات مريبة :
-أنا مستنيكي تحت في العربية يا ..آآ
صمت للحظة قبل أن تتحول نبرته للين وهو يتابع بهدوء :
-يا ماما !
شهقت غير مصدقة ما لفظه تواً .. وإهتز جسدها بإرتجــــافة رهيبة زلزلت كيانها ، كما خفق قلبها بقوة رهبةَ من تلك الكلمة التي طالما انتظرتها ، وتمنت لو سمعتها لمرة واحدة تنطق من بين شفتيه …..
……………………..
في قصـــر عائلة الجندي ،،،،
إختطف مهـــاب من يد المحامي نصيف تلك التصاريح التي أحضرها له ، وســأله مستفهماً :
-يعني المفروض أعمل ايه ؟
أجابه الأخير بجدية وهو يشير بيده :
-تروح فوراً على بورسعيد ، هما هيدخلوك المينا ، وهتســأل هناك عن سفينة شحن طالعة اليونان ، المفروض هاتطلع كمان 8 ساعات بالكتير ، إنت لازم تكون جواها قبل كده
هـــز مهاب رأســه قائلاً بتلهف :
-بيتهيألي هالحق أوصل قبلها بكتير ! المسافة مش بعيدة!
أومــأ نصيف برأســه إيجاباً قائلاً بهدوء :
-أيوه .. أنا مظبط كل حاجة !
ســأله مهاب بقلق وهو ينظر له :
-طب .. طب والتصاريح ولو حد وقفني وآآ… ؟
قاطعه بثقة :
-متقلقش ، الأوراق سليمة
ربت مهاب على ذراعه ممتناً ، فأضــاف نصيف قائلاً بجدية :
-المهم إنت إلحق وقتك !
هز رأســـه موافقاً وهو يجيبه :
-ايوه ، أنا هاتحرك حالاً
وبالفعل أســـرع مهاب في خطواته ناحية الدرج ليصعد إلى غرفته ، ليعد حقيبة سفر صغيرة يأخذهــا معه ..
……………………..
في سيـــارة أوس الجندي ،،،
ضرب أوس بأصابع كفه على المقود بحركة ثابتة ، وإستند بذقنه على مرفقه الأخـــر ، وحدق في المرآة الجانبية للسيارة ..
شرد مع نفسه ليفكر فيما فعله .. لا يعــرف كيف رق قلبه هكذا ليدعو تلك السيدة التي طالما كرهها بـ ( أمـــه ) ، وطلب منها بسهولة القدوم معه ..
لكن إحساسه بظلمها وقهرها ، وبمدى معاناتها المستمرة ، وذلها من أجــل نيل رضائه فقط جعلته يصفح عنها ( إلى حـــدٍ ما ) …
انتصب أوس في جلسته ، وبدى على وجهه الإرتباك وهو يرى والدته مقبلة عليه ..
لم يختلف حالها عنه كثيراً .. فهي لم تعد تشعر بقدميها منذ أن أبلغها بإنتظاره إياها بالأسفل .. ولأول مرة منذ أدهـــر تستشعر العطف والرقــة منه ..
على إستحياء فتحت الباب الأمـــامي لتجلس إلى جواره .. ثم أغلقته بهدوء ، وحدقت أمامها ..
أدار أوس محرك السيارة ، وانطلق بها مسرعاً ، بينما طالعته هي بنظرات أمومية حانية من طرف عينها ، وحاولت أن تختلس النظرات إليه دون أن تشعره بهذا ..
وعلى الرغم من تحديقه في الطريق أمامه بملامح جامدة إلا أنه كان متيقناً من مراقبتها له ..
بحثت تهاني عن وسيلة لتختلق حديثاً ودوداً معه ، فأهداها تفكيرها للســؤال عن تقى ، لذا رسمت إبتسامة مهذبة وهي تسأله بصوت خفيض :
-تـ.. تقى عاملة ايه الوقتي ؟
أجابها بإيجاز ووجهه خالي من التعبيرات :
-بخير
-هو احنا رايحين فين الوقتي ؟
سألته بحذر وهي تبتلع ريقها ..
لم ينظر نحوها ، وأجابها بإقتضاب :
-على بيتي !
إتسعت عينيها في عدم تصديق ، وتسائلت في نفسها بحماس هل هو حقاً يدعوها للمكوث في منزله ..
رقص قلبها طرباً من السعـــادة ، وتشكلت إبتسامة واضحة على ثغرها ..
لم ترغبْ في إضافة المزيد حتى لا تفسد الأجواء اللطيفة بينهما ..
……………………..
في قصر عائلة الجندي ،،،
أغلق مهـــاب صندوق السيارة الخلفي بعد أن وضع به حقيبة سفره ، ثم انطلق مسرعاً نحو مقعد القائد ليدير محركها ، وضغط على دواســة البنزين ليخرج من بوابة القصر الرئيسية دون أن يبلغ الحراسة بأي تعليمات …
نظر له الحـــارس الأمني جمــال بإستغراب ، وغمغم مع نفسه متعجباً :
-هو مسافر فين الوقتي ؟ باين كده الموضوع فيه إن !!
……………………..
في السجن النسائي ،،،،
وضعت ناريمان يدها على فمها وهي تتحدث بخفوت في الهاتف المحمول الذي أعطته إياها الصول ، وتسائلت هامسة :
-يعني ايه مش عارفة توصليلها ؟
أجابتها هياتم بهدوء :
-يا مدام ناريمان أنا بأكلمها من بدري ، وموبايلها مقفول !
هتفت فيها بصوت منزعج رغم خفوته:
-اتصرفي يا هياتم ، لازم توصليلها ، وتعرفي إن كانت جابت الورق ولا لأ
أجابتها هياتم بنبرة جادة :
-حـاضر ، بكرة هاعدي عليها !
مطت ناريمان فمها وهي تتابع هامسة :
-طيب ماتنسيش ، وأنا هاكلمك تاني !!
ثم أنهت المكالمة معها ، وأعادت الهاتف إلى الصــول التي غمزت لها وهي تقول بمكر :
-الحلوان يا ستنا !
ابتسمت لها ناريمان إبتسامة مصطنعة وهي تضع الأموال في قبضتها :
-أه أكيد
إعتلى ثغر الصول إبتســـامة عريضة وهي تدس النقود في جيب سترتها الميري
……………………..
في منزل أوس الجديد ،،،،
إستلقى عدي على الأريكة بعد أن تركته ليـــان وذهبت إلى غرفة أوس لتنام بجوار تقى ..
أغمض جفنيه ليستريح ، ولكنه سمع صوت فتح باب المنزل ، ففتح عينيه ، وإعتدل في نومته ، وحدق بالباب ..
هب من مكانه مذهولاً حينما رأى تهاني تدلف للصــالة ، فأسرع نحوها ، وسألها متلهفاً :
-انتي دخلتي هنا إزاي ؟ وعرفتي مكان الشقة منين ؟ وآآ…
ابتلع باقي الكلمات في جوفه حينما رأى أوس خلفها ، فرفع حاجبيه للأعلى ، وسأله بذهـــول أكبر :
-إنت ! طب إزاي ؟
أشــــار له أوس بعينيه ليكف عن الحديث ، وتشدق قائلاً :
-خليها تنام مع ليان ؟
اعترض قائلاً وهو يشير بيده :
-بس ليان نايمة مع تقى جوا في الأوضة وآآ..
قاطعته تهاني قائلة بخفوت :
-أنا ممكن أنــام في أي حتة ، محدش يشيل همي !
أردف أوس قائلاً بجدية :
-وديها عند أوضــة ليان وأنا هاجيبهالها هناك
لم تصدق تهاني أذنيها ، وظنت أنها تحلم حلماً جميلاً لم ترغب في أن تفيق منه أبداً .. نعم فهي مع فلذات أكبادها تحت سقف واحد ..
……………………..
بخطوات حذرة ومتسللة ، دلف أوس إلى داخــل غرفة نومــه ، ورأى زوجته وشقيقته الصغرى تنامان في هــدوء ، فإعتلى ثغره إبتسامة صافية ..
ثم إقترب من جانب الفراش الذي تنام عليه ليـــان ، وانحنى بجذعه قليلاً ، ووضع يده على ذراعها ليوقظها برفق وهو يهمس لها :
-ليــان ! اصحي
إعتصرت الأخيرة جفنيها بقوة لتفتحهما ، وردت عليه متسائلة بصوت ناعس :
-في ايه يا أوس ؟
همس لها بجدية وهو يهزها :
-روحي نامي في أوضتك
أغمضت عينيها ، وتململت في الفراش ، وغمغمت بصوت ثقيل وناعس :
-لأ مش قادرة أقوم ، خليها بكرة ، أنا مبسوطة هنا
إعتدل أوس في وقفته ، ورمقها بنظرات شبه مغتاظة ، ثم إعتلى ثغره فجــــأة إبتسامة عابثة ، وهـــز رأســه متوعداً لها ..
نزع بهدوء سترته ، وأسندها على الأريكة ، وشمـــر عن ساعديه ، واقترب من الفراش مجدداً ، ثم لف ذراعه حول عنق شقيقته ليكمم فمها ، فشهقت بصوت مكتوم ، وفتحت عينيها مصدومة ، وأزاح بيده الأخــرى جانب الغطاء الذي يغطيها ، ثم مرره أسفل ركبتيها ، وحملها بين ذراعيه ، وســـار مبتعداً بها عن الفراش ..
ركلت ليــــان بقدميها في الهواء وهي لا تصدق ما فعله معها ..
حاولت أن تصرخ ولكن صوتها كان مكتوماً للغاية ..
خـــرج أوس بها من الغرفة حاملاً إياها ، فتفاجيء عدي بما يفعله ، وفغر فمـــه مشدوهاً ، وركض نحوه متسائلاً بذهول :
-إنت بتعمل ايه بالظبط ؟!
-خــد مراتك !
قالها أوس وهو يلقي بها على رفيقه الذي أسرع بتلقفها منه بذراعيه فحملها بهما ، وضمها إلى صدره ..
خفق قلب ليـــان من تلك الحركة المباغتة ، وصاحت بإنزعاج وهي تلف يدها حول عنق عدي :
-إنت اتجننت يا أوس ! ايه اللي بتعمله ده ؟!
غمـــز أوس لعدي وهو يقول بإيجاز :
-اتعامل بقى !
حدقت ليـــان في عدي بصــدمة ، وابتلعت ريقها بإرتباك واضح وهي ترى نظراته المتطلعة إليها بشغف كبير ..
بينما تشكلت إبتسامة متسلية على وجــهه وهو يستشعر بسعادة إرتباكها المغري ..
……………………..
عــــاد أوس إلى الغرفة ، وتمطع بكتفيه ، وبذراعيه ، ثم فرك عنقه بأصابعه ، واتجه نحو سترته ، وإلتقطها بإصبعيه ، ووضع يده في جيبها ليخرج منها فردة الحذاء الأخـــرى ، ثم ألقها على الأريكة ..
فرك بأصابعه تلك الفردة التي صــارت معشوقته ، ودنا من الفراش مجدداً ، ثم إستلقى عليه ، وراقب حبيبته تقـــى بنظرات عاشقة ، ومـــد أنامله ليتحسس بشرتها ، ثم انحنى عليها ليطبع قبلة صغيرة على وجنتها ، وهمس لها بحرارة :
-بأحبك !
أبعــد أوس رأسه للخلف ، وابتسم لها بعذوبة آســـرة ، ثم جمــع فردتي الحذاء معاً ، وأسندهما على الوســـادة أمام وجهها حتى تكون أول ما تراه عينيها حينما تفتحهما …
تثاءب بإرهـــاق وهو يرجع رأسه للوراء ، ثم أغمض عينيه وتلك الإبتســـامة الهادئة لا تفارق محياه …
……………………..
عند رصيف ميناء بورسعيد ،،،،
وصـــل مهاب إلى مدخـــل الميناء بعد أن قطع مســافة الطريق الطويلة في وقت قصير بسبب سرعته الجنونية ..
كانت كل ثانية تمـــر عليه تزيد من هلعه من إحتمالية تعرضه للمسائلة القانونية وربما القبض عليه والزج به في السجن ..
فحص الضابط المسئول عن دخــول الأفراد والسيارات للميناء التصاريح التي بحوزته ، ورمقه بنظرات مطولة قبل أن ينطق بجمود :
-اتفضل ، ورقك سليم
تنفس مهـــاب الصعداء ، وأخذ منه الأوراق ، ثم انطلق بالسيارة للداخـــل …
……………………..
في نفس التوقيت بمكان أخــر بالميناء ،،،
حـــرك أحد سائقى هيئة الميناء الرافعة التي تنقل الحاويات الثقيلة بحذر شديد نحو أحد الأرصفة ليصيح فيه زميله الأخـــر بنفاذ صبر :
-انت يا عم ، خلص بقى خلينا نروح ، الوردية قربت تخلص!
رد عليه السائق بضيق :
-ما أنا شغال قصادك ، شايفني بألعب يعني
هتف فيه بصوت مرتفع وهو يلوح بيده :
-طب نزل الونش خليني أربط أخــر كونتينر ( حاوية )
بينما أضـــاف عامل أخـــر :
-بسرعة يا عمنا ، الوقت أزف
-ماشي يا سيدي
قالها السائق بإمتعاض واضح على وجهه ..
ثم ضغط على زر الإنزال ، وراقب بدقـــة حركته ، ولكن أرقــه إهتزازته الغريبة ..
تجمع العاملون حول الرافعة ، وقاموا بعقد الأربطة المعدنية حول الحاوية ، وتأكدوا من إحكـــام ربطتها ، وما إن انتهوا من عملهم حتى ابتعدوا عنها ، وتراجعوا للخلف ، وأشـــار أحدهم للسائق قائلاً بصوت مرتفع :
-اتوكل على الله وارفع !
رد عليه السائق بنبرة عالية وهو يشير بيده :
-مــــاشي !
وبالفعل ضغط على زر التشغيل لتعمل الرافعة وترتفع تدريجياً للأعلى حتى صـــارت على علو مقبول ، فأدار المقود للجانب لتتحرك معه الرافعة بحذر وتنتقل للجانب الأخـــر من رصيف الميناء ..
شعر السائق بإرتجاجة قوية في الرافعة ، فإنقبض قلبه لوهــلة وحبس أنفاسه ، وظن أنها ستسقط .. فأوقف تشغيلها ، وانتظر لعدة لحظات مترقباً .. لكنها لم تحرك ساكناً ، وظلت على وضعيتها الثابتة .. فتنهد بإرتيـــاح ، وأعــــاد تشغيلها ..
في نفس اللحظة كانت سيـــارة مهاب الجندي تمـــر أسفل مســــار الرافعة ..
حـــدق هو في الطريق أمـــامه بجمود ، وإلتوى فمه بإبتسامة خبيثة أظهرت أسنانه وهو يردد لنفسه بغبطة :
-ابقوا وروني هتوصلولي إزاي ! وأنا هاعرف أنتقم من كل واحد بطريقتي !
وإذ فجـــأة إنقطع رابط الرافعة المعدني ، فهوت بالحاوية التي تحملها فوق سيارته ، فهشمتها على الفور ، وأحدثت دوياً هائلاً هـــــز أرجــــاء الميناء لتتناثر بعدها الدمـــاء على الأرصفة والحاويات الأخــرى المتراصة على الجانبين ، ومعها قطعاً صغيرة من أشلاء ما تبقى من جســـد مهاب ……………………..